في سيرورة متواصلة من الاهتمام بالثقافة؛ والإبداع الأدبي والفني بدأت بواكيره عشية تأسيس الدولة الأردنية بنهج لرعاية الثقافة تبنته قيادتها الهاشمية محملا بخطاب ثقافي لمشروع الدولة الحديثة، واصلت المملكة الأردنية الهاشمية وعلى امتداد 25 عاما من تولي جلالة الملك عبدالله الثاني سلطاته الدستورية هذا النهج الذي أولاه جلالته اهتماما بالغا من خلال توجيهاته، لما تمثله قطاعات الثقافة والفنون من رافعة تنويرية وحضارية تعكس تاريخ وهوية الأردن وقوته الناعمة وتطلعاته المستقبلية التي تواكب العصر.

ويدخل الأردن ثقافيا بعدما دشن في ظل قيادته يوبيلا فضيا من العطاء والبذل في مختلف القطاعات والمجالات، مرحلة تعزيز حضور المنتج الثقافي والفني الإبداعي محليا وعربيا ودوليا، بدءا من الاعتناء بتوفير البنى التحتية والقوانين والتعليمات والأنظمة لتشكل مرتكزا صلبا تستند عليه الحالة الثقافية بكل تجلياتها الإبداعية لتسهم في تحقيق الحضور الإبداعي الأردني اللافت والتميز المنشود، ولتدفع بالمشهد الثقافي نحو خطوات تراكمية متقدمة تتسق مع السردية الوطنية الأردنية وصولا إلى الاستراتيجية الوطنية للتحديث والتي تقع الثقافة ورعايتها في قلبها.

ومن تجليات الخطوات التي اتخذت في هذا السياق شهد عهد جلالة الملك عبدالله الثاني استحداث تشريعات من شأنها تطوير الحالة الثقافية والفكرية في المملكة تمثلت بقوانين رعاية الثقافة رقم (36) لسنة 2006 وتعديلاته، وحق الحصول على المعلومات، والملْكية الفكرية/ حق المؤلف والحقوق المجاورة، والوثائق الوطنية رقم (9) لسنة 2017، بالإضافة إلى بروتوكولات مأسسة إجراءات إنفاذ قانون ضمان حق الحصول على المعلومات في نهاية عام 2020، وأنظمة نشر الثقافة والتراث، وجوائز الدولة التقديرية والتشجيعية، والتفرغ الإبداعي الثقافي الأردني، وصندوق دعم الثقافة، علاوة على الإعلان عن اختيار التاسع والعشرين من شهر أيلول من كل عام "يوما وطنيا للقراءة" لتعزيز مكانة القراءة لدورها في تعزيز المعرفة والثقافة والتنمية المستدامة.

وعلى امتداد 25 عاما في ظل رعاية جلالة الملك عبدالله الثاني للثقافة، شهد الأردن نقلات نوعية عديدة ومنجزات لمشروعات ثقافية كبيرة، ولمبدعين أردنيين في مجالات الآداب والفكر والنقد والفنون الموسيقية والدرامية وصناعة الفيلم حققوا حضورا ونالوا جوائز على المستويين العربي والدولي، وتجسدت الرؤى الملكية في كتب التكليف وخطاباته السامية التي ركزت على توطين المعرفة، والانفتاح على لغة العصر والإفادة مما تتيحه التكنولوجيا، والاهتمام بالشباب، وتمكين المرأة كجزء من عملية الإصلاح فكرا ونهجا، وتوسيع المشاركة وتوزيع مكتسبات التنمية، والتشاركية وتطوير فكرة الصناعات الثقافية التي من شأنها أن تسهم في رفد عجلة الإنتاج الوطني.

ومن أبرز ما شهده الأردن من تظاهرات كبيرة كرست حضور الجغرافيا الأردنية حالة ثقافية يتجلى فيها التاريخ والتراث والإبداع والتنوع والعمق الحضاري أكدت أن النهج الذي أولاه جلالة الملك عبدالله الثاني في رعاية الثقافة وعلى أسس ومرتكزات متينة وضع الأردن في قلب الحالة الثقافية العربية، بدأت تباشيرها تلوح منذ رعاية جلالته الاحتفالية الكبيرة لإعلان عمان عاصمة للثقافة العربية عام 2002 ومن ثم عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2017، والتي لم تتوقف بل واصلت صيرورتها نحو التقدم والإنجاز بالاحتفال بمدينة إربد عاصمة للثقافة العربية عام 2022 لتصاحبها مدينة مأدبا بوصفها عاصمة السياحة العربية لعام 2022"، لما تتمتع به من معالم ثقافية وتراثية ودينية وأثرية وتاريخية فريدة، فيما استحقت مدينة السلط بقرار من لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (يونسكو) لعام 2021، الانضمام إلى قائمة التراث العالمي بوصفها "مدينة التسامح وأصول الضيافة الحضرية في الأردن".

وفي عام 2007 توجت مدينة البترا الأثرية كواحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة، علاوة على إدراج العديد من المواقع الأردنية على قائمة التراث العالمي، والعناصر الثقافية والتراثية على قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية.

ويكشف المشهد الثقافي والفني والتراثي الأردني والذي احتضن مجموعة من التظاهرات الثقافية والفنية ذات الطابع المحلي والعربي والدولي، على امتداد 25 عاما ما تزخر به المملكة من البرامج والمشروعات الثقافية والفنية المتعددة في مختلف محافظاتها، والحضور الرفيع والإنجازات المميزة على مختلف المستويات والصعد المحلية والعربية والدولية، وأسهم بتفعيل الحياة الثقافية والفنية بمختلف تمظهراتها، وإنعاشها بأطياف جديدة ومبتكرة من صنوف الإبداع، بعد أن هيأت لها مناخات من حرية التعبير، الأمر الذي عمل على تعزيز خطاب تنويري أردني أسهمت فيه مؤسسات رسمية وأهلية وخاصة، وعبرت عنه جهود الكثير من المثقفين والأكاديميين والمفكرين والكتاب والفنانين الأردنيين الذين حققوا الجوائز تلو الأخرى في مختلف ميادين الإبداع، مما أسهم بإرساء دينامية ثقافية شملت مختلف الميادين الإبداعية الثقافية، ومن بينها الآداب والنشر والمسرح، والموسيقى والفكر والسينما والفنون التشكيلية والحرفية والتراثية والفلكلور والتصميم والرقمنة ومختلف الصناعات الإبداعية، في جعل الأردن، قلبًا نابضًا للثقافة والحوار بين الحضارات، وفي كل ذلك كانت ولا تزال القدس وفلسطين حاضرة فيه بقوة، وخصوصا في ظل ما تشهده غزة أخيرا من عدوان الاحتلال الإسرائيلي عليها وعلى أهلها المدنيين من أطفال ونساء وكبار السن، وصروحها الثقافية والتراثية والأثرية.

ولعل انبلاج فجر صناعة الفيلم الأردني وحضوره عربيا وعالميا وتعزيز الثقافة السينمائية وتكريسها يعد من العلامات المضيئة في المشهدية الثقافية والفنية الأردنية في العقدين الأخيرين والذي جاء كثمرة تأسيس الهيئة الملكية الأردنية للأفلام عام 2003 بهدف تطوير صناعة الأفلام الأردنية للتنافس عالمياً، إذ شهدت في السنوات القليلة الماضية حراكاً فنياً مهما، وكرست حضورا لافتا على خارطة المهرجانات العربية والعالمية، والأهم أنها صارت تنافس وتفوز بجوائز، مثلما تزاحم الأعمال العربية في شباك التذاكر بعرضها تجاريا في دور السينما المحلية والعربية، وتوج أخيرا هذا الجهد التراكمي بافتتاح استوديوهات الأردن -اوليفوود في 27 من شهر أيلول الماضي برعاية ملكية سامية لتؤسس بنى تحتية للمشروع السينمائي الأردني.

وفي هذا الإطار قال الناقد السينمائي ناجح حسن، إن الأردن أرض خصبة لإيجاد إبداع وثقافة سينمائية متميزة يمكن أن يكون لها مكانتها في المنطقة، إذ تتوافر فيها الطاقات الشابة والبيئة الملائمة والتشريعات التي تنظم عمل المؤسسات التي تعنى بالنشاط السينمائي كالهيئة الملكية الأردنية للأفلام، والتي تعمل على دعم حراك صناعة الأفلام المحلية، إلى جوار ما تسعى إليه من استقطاب مشاريع سينمائية لشركات الإنتاج العالمية الكبرى والمستقلة، دون أن ننسى عزم أفراد وجهات ومؤسسات رديفة، كالذي تقوم به وزارة الثقافة ومؤسسة عبد الحميد شومان وأمانة عمان الكبرى بالإضافة إلى جهود أفراد ومؤسسات أكاديمية أخذت على عاتقها تدريس الفنون السمعية البصرية واشتغالاتها المتنوعة.

وأضاف حسن، أن صناعة الأفلام الأردنية حققت في السنوات العشرة الأخيرة الكثير من الإنجازات، إذ قدّمت تنوعاً لافتاً في حقل الإبداع السينمائي بشقيه؛ الطويل والقصير من الأنواع الروائية والتسجيلية والتحريكية أثرى الحياة الثقافية، ومنحها الألق على الصعيدين المحلي والعربي والدولي.

وتابع، "جالت أفلام أردنية أنجزها مخرجون أغلبيتهم من الشباب والشابات على مهرجانات عربية ودولية ظفر البعض منها بجوائز رفيعة، ونال البعض الآخر استحسان النقاد، وإعجاب عشاق السينما وتجسّد ذلك في الفيلم الروائي الطويل ’ذيب’ للمخرج ناجي أبو نوار، الذي صوّر فيه مغامرة صحراوية تدور في البادية الأردنية إبان عام 1916".

ولفت إلى أنه على غرار فيلم "ذيب" الذي فاز بجوائز عالمية عديدة وكان ترشح لجوائز الأوسكار عام 2016، حضرت مجموعة الأفلام الأردنية الطويلة التي سبقته في الإنتاج وهي: "كابتن أبو رائد" لأمين مطالقة، و"الجمعة الأخيرة" ليحي العبدالله، و"الشراكسة" لمحيي الدين قندور، و "لما ضحكت موناليزا" لفادي حداد، و"على مدى البصر" لأصيل منصور، و"الفرق 7 ساعات" لديما عمرو، و"مدن ترانزيت" لمحمد الحشكي، و"المنعطف" لرفقي عساف وأحدثها أفلام: "فرحة" لدارين سلام، و"الحارة" لباسل غندور، و"بنات عبد الرحمن" لزيد أبو حمدان، و"إن شالله ولد" لأمجد الرشيد.

وكان هناك العديد من الأفلام القصيرة والتسجيلية المتفاوتة الطول، بحسب الناقد ناجح حسن، حال اشتغالات أفلام: "مدينتي" لعبد السلام الحاج، و"الببغاء" لدارين سلام وأمجد الرشيد، و"طرفة" لماجدة الكباريتي و"خارج الأسوار" لأحمد الرمحي، و"بهية ومحمود" لزيد أبو حمدان، و"نمو" لطارق الريماوي، بالإضافة إلى عشرات الأفلام التي عرضت بنجاح في أرجاء المعمورة.

وبين أن عمليات إنجاز تلك الأعمال اتكأت على جهود الشباب الأردني، بإمكانات بسيطة، وطموحات كبيرة لتقديم ألوان من القصص والحكايات في أفلام محلية؛ بغية التعبير عن رؤى وأفكار من داخل تفاصيل الحياة اليومية، ناقشت جميعها جملة من العلاقات الآتية من النسيج الثقافي الأردني، وتنوع مكوناته، حيث سلك صانعوها أساليب سينمائية متفاوتة رسموا فيها بحذق ومهارة إبداعية، ملامح رئيسة لشخوص في مواقف مليئة بالدعابة والغوص في وقائع وأحداث صعبة بإحساس جمالي ورؤى درامية تشويقية لافتة بانت فيها قدراتهم في الربط بين الخيال والواقع.

وقال، إن العديد من تلك الأفلام أنجزت عبر وسائل من الدعم المادي والمعنوي التي وفرتها الهيئة الملكية الأردنية للأفلام من خلال برنامج تدريبي على صناعة الأفلام؛ لتشجيع الشباب الأردني على خوض غمار هذا الحقل الإبداعي في مسعى لتطوير الإنتاج السينمائي المحلي.

وفي هذا الأطار لفت حسن إلى أنه بفعل تنامي صناعة الأفلام الأردنية رأى القائمون على تنشيط هذا الفعل الثقافي ضرورة العمل على إيصال هذه الاشتغالات السمعية البصرية إلى قطاعات واسعة من المجتمع المحلي وإبراز دورها كأداة للتواصل والمعرفة، لهذا نظّمت أكثر من احتفالية دورية بالأفلام الأردنية أشرفت عليها وأسهمت فيها كل من: الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، ولجنة السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان، ومديرية المسرح والفنون البصرية في وزارة الثقافة، وجامعات ومراكز ثقافية، وأمانة العاصمة فضلًا عن مبادرات مؤسسات وأفراد في القطاعين الخاص والعام، جرى من خلالها تنظيم "مهرجان عمان السينمائي الدولي-أول فيلم" الذي ضم مجموعة من المسابقات حول السينما العربية والكشف عن عوالم صناعة الأفلام الأردنية على هامش مهرجان الفيلم العربي الفرنسي، ومهرجان الفيلم الأوروبي، ومهرجان كرامة لحقوق الإنسان.

وأشار إلى مهرجان الفيلم الأردني الذي يعقد سنويًا في عمان، كما أقيم في فضاءات جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا ومهرجان الأردن لأفلام الصور المتحركة الذي تم تنظيمه في فضاءات جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا، مثلما جرى إقامة أسبوع فيلم الطفل، عدا عن العروض التي تحتفي بمحطات من تاريخ وتجارب السينما الأردنية ومنجزها الجديد، وهو ما أتاح الفرصة للمهتمين والنشء الجديد مشاهدة أفلام هادفة وترفيهية، أطلعتهم على آفاق جديدة في تنمية قدراتهم ورفع مستوى ذائقتهم بالفن السينمائي، وتلقي رؤى وخطاب مفردات الصورة، فضلًا عما تتيحه من فرص للتعبير والحوار الهادئ.

بترا