بلطف شديد، يداعب الطبيب البيطري أحمد شريدة "كارين الغوطة" الفرس الأحب إلى قلبه، يهمس في أذنها قليلاً قبل أن يناولها جرعة جديدة من الأدوية في مركز إيواء مخصص لرعاية الخيول العربية الأصيلة قرب دمشق.

تبدو "كارين الغوطة" في إشارة للغوطة الشرقية قرب دمشق، البيضاء والرمادية اللون والبالغة من العمر 11 عاماً، ضعيفة ومنزوية وغير قادرة حتى على الصهيل. 

ويقول الطبيب البيطري (51 عاماً)، الذي كان يعيش في الغوطة الشرقية قبل نزوحه منها، لوكالة فرانس برس "أعرف كارين جيداً، أنا من أخرجها من بطن أمها، وربّيتها طيلة سنوات، قبل أن تُسرق في العام 2012 بعد هروب معظم الخيل" من مزرعة في مدينة دوما، أبرز مدن الغوطة، التي كانت تشكل أهم معاقل الفصائل المعارضة قرب العاصمة.

ويضيف "كانت كارين ملكة جمال خيول الغوطة".

أما اليوم، فقد فتك الضعف والمرض بها بعدما أمضت سنوات صعبة تحت القصف والمعارك والحصار في الغوطة الشرقية.

ويوضح شريدة أن "كل الخيول التي وجدناها من الغوطة الشرقية نحيلة ومريضة، فقد كانت في بيئة غير صحية من ناحية الأجواء الصاخبة وأصوات المعارك والخطر المحدق بها دائماً، ومن ناحية سوء التغذية وعدم خضوعها للفحص الطبي".

وبعد سيطرة الجيش السوري على الغوطة الشرقية في أبريل الماضي، أطلق مكتب الخيول العربية في دمشق، التابع لوزارة الزراعة، حملات للبحث عن الخيول الضائعة.

وبدأ المكتب تدريجاً بنقلها إلى مزرعة الديماس قرب دمشق التي أنشئ فيها العام الحالي اسطبل خاص بخيول الغوطة الشرقية. وأنقذ حتى الآن 25 منها من أصل 70 من كل المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة.

وتعيش في مزرعة الديماس أيضاً خيول أنقذت من مناطق أخرى مثل ريف حماة (وسط) ودرعا جنوباً. 

 آخر خيول الهدباء

و"كارين" هي آخر فرس من رسن "هدباء انزحي الفواعرة"، لوجود أهداب طويلة على عينيها وناصيتها. وهذا الرسن هو واحد من سبعة أرسان أصيلة في سوريا، وفق مكتب الخيول العربية.

يسعى شريدة وخمسة أطباء آخرين جاهدين لكسر عزلة "كارين" وعلاجها لإنقاذ رسنها من الإنقراض، يخرجها أحياناً إلى ساحة الاسطبل لكنها في معظم الأوقات لا تتجاوب معه.

يحقن شريدة "كارين" بإبرة قرب رقبتها ثم يمسح يده عليها ليطمئنها، وهو الذي كان أحد مندوبي مكتب الخيول العربية إلى الغوطة لتفقد الخيول، وقد تعرف على على "كارين" فور رؤيتها قبل شهرين.

ويقول الطبيب، الذي يضع نظارات طبية وحول رقبته سماعته الطبية، "صُدمت حين رأيت كارين المرة الأولى بعد سبع سنوات. كانت عبارة عن عظم مكسوّ بالجلد، وشاحبة، ولا تستطيع حتى الوقوف".

ويضيف "كارين اليوم كئيبة وحزينة".

ورسن "هدباء انزحي الفواعرة" مهدد أساساً بالإنقراض منذ ما قبل الحرب، وباتت مهمة انقاذه اليوم أصعب.

ويشرح مدير مكتب الخيول العربية في وزارة الزراعة محمد غياث الشايب لوكالة فرانس برس أن "رسن هدباء إنزحي الفواعرة مهدد بالإنقراض من قبل الحرب، فلم يكن هناك سوى بضعة خيول، أما اليوم فلم يعد سوى كارين".

ويضيف "نحاول إنقاذ الرسن، عبر نظام غذائي محدد ورعاية صحية كاملة لكارين، وسنحاول أن نقوم بزراعة أجنة لضمان أن تنجب مولوداً أنثى من رسنها".

 فقدنا الآلاف

أمام غرفة "كارين" في اسطبل الديماس، تمر "ماريا" التي لم تكن أحسن حالاً من صديقتها.

وتنتمي ماريا إلى رسن الكحيليات الشهير، بسبب اللون الأسود الذي يحيط عينها ويُشبه الكحل. ورغم العثور عليها قبل شهرين في دوما، إلا أن وضعها الصحي لا يزال حرجاً.

وتعرف الخيول العربية بسرعتها وجمالها وقدرتها على التحمل. وتعد من أجود وأقدم أنواع الخيول في العالم. ويجري الاعتماد عليها بشكل كبير للتناسل مع سلالات أخرى بهدف تحسين جودة الأخيرة.

ولم تكن الخيول بمنأى عن النزاع إما لجهة الأضرار التي لحقت بها أو لتراجع القدرة على تسجيلها كما اقتضت العادة لدى المنظمات العالمية المعنية.

وفي سنوات النزاع الأولى، لم تسجل سوريا أي خيول أصيلة لدى المنظمة العالمية للخيول العربية التي انضمت إليها في العام 1989.

ويقول الشايب "في 2011، كان لدينا حوالى 8500 خيل مسجّل لدى المنظمة العالمية، وفقدنا منها ثلاثة آلاف" جراء التشرد والنزوح والخطف والقتل، مشيراً إلى أنه "جرى تهريب بعضها إلى خارج البلاد أيضاً، حالها حال الآثار، فكلاهما لا يُقدّر بثمن".

وخلال السنوات الماضية، واصل المكتب عمله لتثبيت نسب مئات الولادات الجديدة، وجرى منذ العام 2014 تسجيل نحو 2400 خيل أصيلة.

 عدوانية ومكتئبة

يتألف الاسطبل في الديماس من صناديق متقابلة ومفتوحة، وفوقها سقف معدني، وفي محيطها باحات صغيرة تلعبُ بها الخيل وأماكن أخرى مخصّصة للطعام والشراب.

يتجول مدرّب الخيول جهاد غزال (40 عاماً) في المزرعة حيث يعلو صهيل أحد الخيول بشكل جنوني.

ويشرح غزال الحالة النفسية التي مرت بها الخيول، ويقول "الخيل حسّاسة للغاية وتأثّرت كثيراً من الأصوات التي كانت تسمعها (...) كانت تصلنا خائفة وعدوانية ومكتئبة ومن الصعب الاقتراب منها، وتحتاج لفترة طويلة حتى تُروّض مُجدداً". 

يعتلي جهاد الحصان "نجم" ويتجول به في ساحة الاسطبل. يتجاوب "نجم" البني اللون والممشوق بسهولة مع المدرب، فقد بقي في السنوات الماضية في منطقة بعيدة عن القصف والمعارك في دمشق. 

يتذكر جهاد أنه قبل سنوات، استهدفت غارة اتهمت دمشق إسرائيل بتنفيذها، منطقة واقعة قرب الديماس، و"لفترة عام من بعدها، كان المهر يولد مشلولاً أو ميتاً نتيجة الذعر الذي أصاب الخيل".

ويقول "الخيل حساسة، وقد تتعرّض لصدمات عاطفية"، مشيراً إلى أنه في العام 2016، وبعيد دوي انفجار قريب قرب المنطقة "عمدت إحدى الخيول إلى الانتحار، ضربت رأسها بالحديد إلى أن ماتت". 

أ ف ب