بأطراف أصابعها المتورمة، وغباش في عينيها حرمها من رؤية واضحة، تحاول عاملة فلبينية تحسس رأسها المتورم، وأعضاء جسدها المنهك، بعد أن أشبعها مالك مكتب استقدام عاملات منازل ضربا مبرحا وسبابا بتهمة محاولة الهرب.
منى (اسم مستعار) قضت أكثر من ألف ليلة وليلة برفقة 13 عاملة منزل قيّد ذلك المكتب حركتهن في مسكن بالقرب من منطقة الدوار السابع في العاصمة عمّان، وأجبرهن على العمل بنظام مياومة لأكثر من 12 ساعة يوميا، بعد سحب أوراقهن الثبوتية.
حياتهن رتيبة، وأيامهن متشابهة. يسَقن صباح كل يوم برفقة سائق إلى أماكن أعمالهن، حيث يرابط حتى خروجهن مساء، ليعود بهن إلى مساكنهن التعيسة.
"جئت إلى الأردن بناء على نصيحة قريبة لي قالت، إن ظروف العمل جيدة، والرواتب مرتفعة" تقول منى لـ "المملكة" التي تعمل الآن في منزل تسكن فيه أيضا، في عمّان، بكفالة جديدة.
"تواصلت مع مكتب استقدام، استصدر لي أوراق عمل مقيد في منزل في عمّان بعقد لسنتين. لم أعلم آنذاك بأني سأعمل في أغلب بيوت المدينة، صباحا ومساء" تضيف منى، وهي في منتصف العقد الثالث من عمرها.
لم تستطع منى الثبات طويلا، فلجأت إلى صديقة أوصلتها إلى مركز تمكين للدعم والمساندة، في محاولة للتخلص من شقائها واستعبادها، فما كان من المركز إلا أن حوّلها إلى وحدة مكافحة الاتجار بالبشر.
"قصة هذه الفتاة الفلبينية كانت مثيرة للاهتمام، خاصة أن مكتب استقدام مرخص، وليس مكتب خدمات غير مرخص، اعتدى على حقها" تبين مديرة المركز، ليندا كلش لـ "المملكة".
"ما صدمنا، هو وجود عاملات يقبعن في سكن ذلك المكتب نفسه، ويعملن بشكل يومي منذ 8 سنوات، وهذه مخالفة جسيمة".
في هذا التحقيق الاستقصائي، استطاع فريق قناة المملكة أن يوثق تشغيل عاملات وافدات يوميا أو أسبوعيا من قبل 5 مكاتب خدمات "غير مرخصة"، وأن يوثق بكاميرا سرية، صوتا وصورة، حالة عاملة وافدة تعمل يوميا في أحد هذه المكاتب.
احتجاز جبري
في أحد أزقة منطقة الهاشمي الشمالي، لم يبدُ الوضع مطمئنا عندما ذهب فريق "المملكة" للقاء مالكة مكتب خدمات تنظيف يومي، وشهري. وبعد إصرار عنيد، سُمح للفريق برؤية عاملات تنظيف قبل السماح لهن بالعمل في منزل افتراضي، أو وهمي، في منطقة في عمّان الغربية.
انتظر فريق "المملكة" بالقرب من منزل مالكة المكتب، ثم خرج من هذا المنزل ابنها، الذي بدا وكأنه يحاول قراءة وجوه أعضاء الفريق.
فجأة، تحول المنزل إلى مكتب خدمات. تحدثت المالكة بنبرة بدا فيها شك، مشيرة بطريقة تكاد تكون غير مفهومة إلى محاولتها تصويب عملها. ما هي إلا دقائق معدودة، حتى جاءت عاملة من بنغلادش، وقالت إنها جاهزة للعمل برفقة شقيقتها، وإن مالكة المكتب ستطمئن عليهما كلما سنحت فرصة. غادر فريق "المملكة" المكان، بعد أن اتفق مع المالكة على العودة قريبا.
تشغيل عمالة وافدة يوميا من قبل أصحاب مكاتب الاستقدام، أو مكاتب خدمات غير مرخصة، مخالفة صريحة لـنظام تنظيم المكاتب الخاصة التي تستقدم وتستخدم عاملات وعاملي منازل غير أردنيين. المادة 12/ب من النظام تلزم تلك المكاتب بعدم استخدام عاملين وعاملات خارج نطاق الخدمات المنزلية، أو العمل بنظام المياومة، أو لدى غير مالك/مالكة المنزل المصرح للعامل أو العاملة بتقديم خدمات فيه -- خاصة أن الأمر يدخل في باب الاتجار بالبشر.
وتعرّف المادة 3 من قانون منع الاتجار بالبشر هذه الجريمة على أنها "استقطاب أشخاص أو نقلهم أو إيوائهم أو استقبالهم بغرض استغلالهم عن طريق التهديد بالقوة، أو استعمالها، أو غير ذلك من أشكال القسر، أو الاختطاف، أو الاحتيال، أو الخداع، أو استغلال السلطة، أو استغلال حالة ضعف، أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية، أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على هؤلاء الأشخاص".
بالنسبة لكلش "الظروف التي تحكم جريمة الاتجار بالبشر في الأردن، تميزها عن غيرها من الجرائم، إذ إن لغطا يدخل في تصنيف هذه الجريمة".
"قد تختص جريمة الاتجار بالبشر في الجرم الجسدي، أو النفسي، أو اللفظي، أو الجنسي، أو من خلال عمالة الأطفال، وتجارة الأعضاء" تقول كلش، موضحة أن هذه الجرائم "قد تبدو أحيانا متشابكة، فيجتمع أكثر من جرم في نفس الوقت، ونفس الشكوى".
"خلط كبير"
منذ مطلع العام الحالي، تلقى مركز تمكين شكاوى، أحال 19 منها إلى وحدة مكافحة الاتجار بالبشر، بينما أحالت مديرية العاملين في المنازل 43 شكوى إلى الوحدة.
"يظهر تقرير المديرية للنصف الأول من هذا العام إغلاق 3 مكاتب، وإنذار 22 مكتبا آخر؛ بسبب مخالفة الأنظمة والتعليمات" يقول محمد عبيدات، مفتش في وزارة العمل.
سنويا، تصنف السلطات العديد من القضايا على أنها اتجار بالبشر: 20 قضية في عام 2018، 23 في 2017، و 28 قضية تنوعت بين العمل الجبري والاستغلال الجنسي في 2016، بحسب ما ذكرت أسماء عميرة، مستشارة قانونية مختصة في الاتجار بالبشر.
عميرة تقول، إن 7 قضايا صنفت منذ مطلع العام الحالي على أنها اتجار بالبشر، ولا تزال منظورة أمام القضاء.
"للأسف يحدث خلط كبير بين الاتجار بالبشر، وبين الاحتيال، الخداع، حجز أوراق ثبوتية؛ مما يؤثر سلبا على أطراف القضية، وعقاب منتهكي حقوق الضحايا" تضيف عميرة.
"في نفس الوقت، يغلّظ قانون منع الاتجار بالبشر العقوبة إذا كانت الضحية أنثى؛ إذ يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة مدة لا تزيد عن 10 سنوات، وبغرامة لا تقل عن 5 آلاف دينار، ولا تزيد عن 20 ألف دينار، بحسب المادة 9 منه" توضح المستشارة القانونية.
"مغامرة"
يقول أحمد الفاعوري، رئيس نقابة أصحاب استقدام واستخدام العاملين في المنازل، إنه ينأى بنقابته وأعضائها من المكاتب البالغ عددها 145، عن تهمة الاتجار بالبشر.
في حالة ثبوت ممارسات تصل إلى حد الاتجار بالبشر، تكون المكاتب المرخصة عرضة لمصادرة كفالتها البالغة 60 ألف دينار.
"المغامرة تبدو صعبة لأصحاب المكاتب المرخصة، لكن المكاتب غير المرخصة البالغ عددها 300-320، هي المتهمة بانتهاك حقوق عاملات وافدات، فهن يعملن لفترات طويلة تصل إلى 16 ساعة يوميا، مقابل أجر زهيد، ومقابل حماية تقدمها لهن هذه المكاتب، إضافة إلى وسيلة نقل" يضيف الفاعوري لـ "المملكة".
"أستغرب من ممارسة مكاتب غير مرخصة أعمالها علنا، بما في ذلك نشر إعلانات في الصحف، وعبر شبكات التواصل الاجتماعي" تقول مديرة مركز تمكين.
تتضارب الأرقام الرسمية حول عدد المكاتب غير المرخصة؛ غالبا بسبب عمل هذه المكاتب تحت مسمى "خدمات" كما يرى عبيدات.
ويبين: "المسمى والترخيص يتشابهان، لكن العمل واقعيا يختلف؛ لذلك تنشر المكاتب غير المرخصة إعلانات من دون اكتراث".
ببضع كلمات مفتاحية، عبر الشبكة المعلوماتية، يجد الباحث عشرات مكاتب الخدمات المتخصصة في أعمال النظافة، أو ما يطلق عليها المكاتب غير المرخصة.
تقدم تلك المكاتب عروضا مختلفة، بأسعار "مغرية" إضافة إلى خدمة التوصيل.
خاض فريق قناة المملكة التجربة، واتصل بأحد تلك المكاتب لطلب خدمات 3 عاملات تنظيف. لبى المكتب الطلب سريعا، مع تأكيدات من مالكه باستعداده لإيصال العدد المطلوب، ومن جنسيات مختلفة.
"لا أستغرب انتهاكات تلك المكاتب، والأمر ليس مقتصرا على ظروف العمل القاسية يوميا، بل يصل إلى احتجاز عاملات في أماكن تابعة لصاحب العمل، الذي يجبرهن على العمل بنظام مياومة، من دون تقديم أي نوع من الرعاية الطبية،" تقول عميرة.
عاملات بنغلادش أكثر عرضة للانتهاكات
في عام 2015، جال مقطع فيديو لعاملة من بنغلادش شبكات التواصل الاجتماعي، بعد أن تعرضت للضرب من موظفين في مكتب استقدام عمالة منزلية.
وقائع القصة، بحسب بيّنات اطلعت عليها "المملكة"، تفيد بأن كفيل تلك العاملة أعادها إلى المكتب، وتنازل عن كفالتها بسبب مرضها، فقام أولئك الموظفون بضربها وشتمها. بل حاول أحدهم خنقها بقطعة قماش بمساعدة من زميلة لها بنغالية، اشتركت هي الأخرى بضرب العاملة.
"العاملات الوافدات من بنغلادش يأتين من مناطق طرفية تفتقر لتعليم كاف، وهن أكثر عرضة للانتهاكات، والاستغلال" بحسب الفاعوري. "أما العاملة الفلبينية، مثلا، فتصنف على أنها أكثر وعيا وعلما، وقد يصعب على أصحاب العمل استغلالها، أو التلاعب في حقوقها".
في ذلك العام، أوقفت إندونيسيا إرسال عاملات منزل إلى دول عديدة، منها الأردن؛ بسبب انتهاكات ضد حقوق عاملات منازل.
قبل تلك الانتهاكات بسنوات، حذرت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها، من إخفاق السلطات في محاسبة أرباب العمل، ومكاتب استقدام العاملات، وتحدثت عن أبرز الانتهاكات لحقوق العمالة المنزلية الوافدة، مثل الضرب، الإهانات، طول ساعات العمل، ومصادرة الأوراق الثبوتية، إضافة إلى وعود زائفة تعطيها مكاتب استقدام العاملات الوافدات قبل سفرهن من بلدانهن، عن سهولة العمل، والأجور المرتفعة.
لكن مقارنة بدول مجاورة، الأردن، الذي شكل قبل عدة سنوات، لجنة وطنية لمحاربة مثل تلك الجرائم "رائد في مكافحة الاتجار بالبشر، وصادق على اتفاقيات وبروتوكولات دولية، منها بروتوكول منع وقمع جريمة الاتجار بالبشر الخاصة بالنساء، والأطفال، إضافة إلى إقرار قوانين محلية، وأنظمة تضبط علاقة صاحب العمل، بالعاملين بالمنازل" تقول عميرة.
وبحسب إحصائيات تصاريح العمل الصادرة من مديرية العاملين في المنازل منذ مطلع العام الحالي، احتلت الفلبين رأس القائمة بنسبة تصل إلى نحو 32%، وتلتها بنغلادش (29%)، وأوغندا (28.94%)، ثم نيبال (3.49%)، إثيوبيا (1.29%)، وغانا (1.25%).
عاملات منازل قليلات ملكن قوة كافية لتقديم شكاوى، واستعادة حقوقهن من منتهكي حريتهن، لكن لا تزال أغلبية قابعة خلف جدران مساكنهن، يعملن على مدار اليوم بصمت، وخوف.
المملكة