مصطفى ذو الثمانية أعوام شنق نفسه بحزام حتى الموت بعد أن استمر أقرانه في المدرسة بالسخرية منه بسبب عيب خلقي في يده اليمنى.

"خلق الله يد ابني اليمنى من دون أصابع، مما أثار تعجب أقرانه في المدرسة، فقاموا مراراً بوضع يده تحت صنبور الماء في محاولة لإنبات أصابعه" يقول عادل، والد مصطفى، لموقع قناة المملكة الإلكتروني.

"كره مصطفى المدرسة، وهدد بقتل نفسه إن أجبرناه على الذهاب إليها، لكننا لم نتوقع أن يقوم بذلك"، يضيف الأب، الذي انتقل مع أسرته الصغيرة من الزرقاء إلى المفرق بعد انتحار ابنه.

"في يوم من الأيام، دخلنا إلى غرفة مصطفى فوجدناه قد شنق نفسه بحزام ربطه في عمود تعليق الملابس في خزانة ملابسه، حاول أخوه قطع وحرق الحزام لإنقاذ مصطفى لكن دون جدوى" يوضّح عادل، الذي بدا عليه الحزن والحسرة.

"ابني أنهى حياته قبل نحو 5 أعوام وكان ضحية تنمّر زملائه في المدرسة وأقرانه في الحي".

مصطفى كان واحداً من عشرات الأطفال الذين يتعرضون سنوياً لهذا النوع من العنف، إذ تشير أرقام مديرية الإرشاد في وزارة التربية والتعليم إلى أنها استقبلت نحو 140 شكوى حول ذلك خلال العام الدراسي الماضي، وتم تشكيل لجان تحقيق في عدد منها.

ما هو التنمّر؟

التنمّر هو تعرّض الشخص بشكل متكرر على فترات من الزمن لتصرفات سلبية من قبل شخص أو مجموعة من الأشخاص، مما يشكل صعوبة في الدفاع عن النفس. منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)

وتشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) إلى أن نحو 246 مليون طفل ويافع حول العالم يتعرضون لأشكال مختلفة من العنف في كل عام دراسي، بما في ذلك التنمّر.

أما منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) فقالت في تقرير نشرته حديثاً إن "نصف المراهقين في العالم يعانون من عنف الأقران في المدرسة أو في محيطها".

وتفيد إحصائيات يونيسف بأن ما يزيد عن تلميذ واحد من كل 3 تلاميذ ممن تتراوح أعمارهم بين 13 و15 سنة يتعرض للتنمّر، وأن واحدا من كل 3 طلاب في المرحلة العمرية ذاتها يشارك في شجارات بدنية.

ووثقت دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية نتائج التنمّر، إذ "يتسبب التنمّر بالعديد من المشكلات الصحية والنفسية للأطفال الذين يعانون منه".

عادة ما يستخدم المتنمّرون الذكور أساليب مثل الضرب والدفع والتهديد لفرض سيطرتهم، بينما تميل المتنمّرات إلى استخدام الإيذاء اللفظي والنفسي تجاه الأطفال الآخرين منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)

موسى مطارنة، وهو استشاري نفسي وتربوي، يفسر ظاهرة التنمّر بأنها "حالة من العنف أو السيطرة من طالب قوي على آخر ضعيف، وتشمل العنف اللفظي والجسدي والنفسي والجنسي، وتتكرر باستمرار من المتنمّر على المتنمّر عليه".

وضحايا التنمّر أكثر عرضة لاستخدام المواد المخدرة ومحاولة الانتحار، بحسب تقرير أصدرته يونسكو في 2017.

استشاري الطب النفسي، محمد الدباس، يقول لموقع قناة المملكة "إن المحيط البيئي الذي ينشأ فيه الطفل له الدور الأبرز في التسبب بالتنمّر على الأطفال الآخرين وإيذائهم لفظياً أو جسدياً؛ إذ يكون المتنمّر في كثير من الأحيان ضحية سابقة للتنمّر؛ ولذلك يقلّد العنف الذي تعرّض له".

يقلّد الأطفال المتنمّرون العنف الذي يشاهدونه في الألعاب الإلكترونية والأفلام، الأمر الذي يفسّر تأثر الأطفال المتنمّرين الذين يعيشون في أسر تخلو من العنفمحمد الدباس، استشاري طب نفسي

التنمّر يؤثر على الضحية على المدى القصير والبعيد، وفقاً للدباس، الذي يوضّح أن الأذى على المدى القصير يشمل القلق، الخوف، التوتر، فقدان الثقة بالنفس، تدني التحصيل الأكاديمي، العزلة الاجتماعية، اضطرابات النوم، فقدان الشهية، ونقصان الوزن.

"من الممكن أن يؤدي التعرض للتنمّر لأعراض اكتئابية وأعراض جسمية تشمل رفض الذهاب للمدرسة، إذا كانت هي مصدر التنمّر، بالإضافة لميل الطفل للعزلة والخوف من إخبار الأهل بما يمر به"، يبين الدباس.

ظاهرة متفشية

في فبراير 2018، أثارت حادثة وقعت في إحدى مدارس العاصمة عمّان جدلاً حول التنمّر، إذ  أظهر مقطع فيديو طالباً يعتدي على آخر بالضرب المتكرر داخل المدرسة، بينما يقوم آخر بالتصوير وتشجيع المعتدي على الضرب أكثر.

إدارة المدرسة قالت عقب الحادثة على حسابها في منصة فيسبوك إنها "ستتخذ الإجراءات اللازمة بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم".

وعلّق حينها وزير التربية والتعليم، عمر الرزاز ـ الذي يشغل حالياً منصب رئيس الوزراء ـ بأن التنمّر "ظاهرة متفشية" وأنها تستدعي "فتح حوار لا يتناول المتنمّر والضحية فقط؛ بل يشمل أيضاً من يقف متفرجاً في حالات العنف من دون أن يتصرف لوقف الاعتداء".

الدباس يصف من يصور، أو ينشر حوادث العنف بين الأطفال، أو التنمّر بأنه "مشارك بالجريمة مثل الذي قام بالاعتداء"؛ لأن "الإيذاء لم يعد محصوراً في نطاق الحادثة، الأمر الذي يستلزم علاجاً نفسياً".

وفي مارس 2017، أصيب طالب في رأسه بعد تعرضه لإطلاق نار قرب مدرسته في عمّان إثر مشاجرة مع طالب آخر.

مديرية الأمن العام أوضحت بعد الحادث أن "مشاجرة حدثت بين طالبين إثر خلاف بينهما، وأن شخصين من أقارب أحدهما حضرا للمكان بواسطة إحدى المركبات وأقدم أحدهما على إطلاق عيار ناري تجاه الحدث مما أدى إلى إصابته".

يلجأ الطلبة الضعفاء عادة للالتفاف حول الطالب القوي بحثاً عن الحماية، متجنبين الشكوى لذويهم أو للمعلمين؛ مما يجعل اكتشاف المتنمّر أو المتنمَّر عليه أمراً صعباًموسى مطارنة، استشاري نفسي وتربوي

برامج وقائية وعلاجية

وفي محاولة للتصدي للتنمّر والعنف المدرسي، تنفذ مديرية الإرشاد في وزارة التربية والتعليم عدداً من البرامج الوقائية التي تعنى ببناء شخصية الطلبة والحد من احتمالية ممارستهم لسلوكيات عنيفة، بحسب مديرة المديرية السابقة سوزان عقرباوي، التي تقاعدت قبل فترة وجيزة.

انخفضت حالات العنف الجسدي بنسبة 12% واللفظي بنسبة 20% منذ البدء بتطبيق برامج توعية ضد العنف في المدارس في 2009 حتى العام الدراسي 2016-2017. سوزان عقرباوي، مديرة مديرية الإرشاد، وزارة التربية والتعليم

وتقول الوزارة إنها تعمل على "تضمين مجموعة من المهارات الحياتية ومن بينها إدارة الغضب والتنمر لبرنامج المخيم الصيفي الذي بلغ عدد الطلبة المشاركين فيه نحو 50 ألفاً".

كما تعمل على "التوسع في تعيين المرشدين التربويين، وتضمين مفاهيم حماية الطفل من الإساءة في مناهج الصفوف الثلاثة الأولى".

أدى ذلك إلى "انخفاض نسب العنف اللفظي والجسدي في المدارس"، بحسب الوزارة.

وتقول آية الأزرق ـ وهي مشرفة تربوية في إحدى المدارس الخاصة في عمّان ـ إن نحو 40% من الذكور ضمن الفئة العمرية 12-18 سنة مارسوا التنمّر مرة واحدة على الأقل، وهي مرحلة عمرية يلجأ فيها من هم في عمر المراهقة للتنمّر "لإثبات أنفسهم وجذب انتباه الآخرين لهم".

40% من الذكور ضمن الفئة العمرية 12-18 سنة مارسوا التنمّر مرة واحدة على الأقل.آية الأزرق، مشرفة تربوية في إحدى مدارس عمّان الخاصة

المشرف التربوي يبدأ بالتعامل مع شكاوى التنمّر بتنظيم جلسات منفردة مع الطالب المتنمّر، تتضمن تمارين استرخاء لتهدئة أعصاب الطالب؛ إذ غالباً ما يعاني المتنمّرون من التوتر والغضب.

"ضحية التنمّر يحتاج أيضاً إلى جلسات علاج، إذ يولّد تعرضه المستمر للتنمّر الشعور بالخوف وضعف الشخصية"، وفقاً للمشرفة التربوية.

وتتدرج عقوبة التنمّر من إنذار أولي إلى إنذار ثانٍ في حال تكرار الإيذاء، قبل أن يُطلب من أهل الطالب المتنمّر التعهد بعدم تكرار الإيذاء. إنْ لم يلتزم الطالب، تعلّق دراسته لأيام عدة، حسب الأزرق.

التنمّر والعنف المجتمعي

الآثار بعيدة المدى على ضحايا التنمّر قد تظهر في أكثر من شكل.

"قد يعاني الطفل الذي تعرض للتنمّر من الخوف والاضطراب والانعزال الاجتماعي عند الرشد، وقد يتحول إلى إنسان ناقم على المجتمع ويعبّر عن ذلك بممارسة السرقة وإيذاء الآخرين"، وفق الدباس.

المتنمّرون في الصغر مشروع للخارجين عن القانون في الكبر ... المجتمع يشهد انتشاراً للتنمر يومياً من خلال ممارسات عديدة منها طريقة الكثيرين في قيادة السيارات ... مجد الدين خمش، مختص في علم الاجتماع

المختص في علم الاجتماع مجد الدين خمش ربط بين ممارسة التنمّر في الطفولة ومخالفة القوانين في الكبر.

"المتنمّرون مشروع للخارجين عن القانون عند الكبر" يقول خمش، موضحاً أن المتنمّرين يعانون من ضعف الانضباط الذاتي؛ مما يجعلهم رافضين للتعليمات والقوانين المدرسية، وهي مشكلة قد تتفاقم لتشمل مخالفة القوانين والأنظمة العامة في حال لم تعالج بشكل صحيح.

"من واجب المشرفين التربويين في المدارس التواجد في الميدان لمراقبة سلوكيات الطلبة، ونشر ثقافة الشكوى بينهم في حال التعرض لتنمّر أو أي اعتداء، خاصة وأن التنمّر يزداد عند عدم الشكوى" وفق خمش.

"المجتمع ككل يشهد انتشاراً لظاهرة التنمّر يومياً من خلال ممارسات عديدة منها طريقة الكثيرين في قيادة السيارات، إذ تحاول فئة من المجتمع فرض نفسها على الآخرين بهدف تحدي القانون والحصول على أشياء ليست من حقها" بحسب خمش.

إلا أن خمش لا يرى أن هناك حاجة لتغليظ العقوبات على المتنمّرين في المجتمع؛ لأن المطلوب "معرفة القانون والعقوبة وليس تشديدها، لأن معرفة القوانين الأساسية بالمخالفات تشكل رادعاً كافياً، خاصة عند تطبيق العقوبات القانونية بشكل كامل".

الرزاز ـ الذي شغل منصب وزير التربية والتعليم من يناير 2017 إلى يونيو 2018 ـ دعا في تلك الفترة لـ "مراجعة جادة للمهمات التي تضطلع بها المدرسة وبما تقدمه من تربية وتعليم".

وحثّ على "تخصيص 20% من وقت الدوام المدرسي لحصص النشاط لتشمل آداب التعامل مع الآخر واحترامه، وآداب الحوار، وتنمية الفضول الفكري، ومبادئ العمل مع الفريق والرياضة والفنون والعمل الكشفي والتطوعي".

كما دعا إلى "استثمار ساعات ما بعد الدوام المدرسي في برامج تقوية وبرامج لصقل المواهب والمهارات، واستثمار العطلة الصيفية لتنفيذ برامج متكاملة تنمي الشخصية وتعزز الهوية الوطنية والانتماء، بحيث تخرج المدرسة عن دورها التقليدي الضيق إلى دور تطويري تنويري واسع".

المملكة