بالرغم من ثبوت أضرار الغبار والإشعاعات المنبعثة من خام الفوسفات على الإنسان والبيئة، إلا أن عملية إعادة تأهيل مناجم فوسفات الرصيفة التابعة لشركة مناجم الفوسفات الأردنية تشوبها ممارسات قد تهدد حياة سكان المناطق القريبة، وفق مختصين تحدثوا لبرنامج "قيد التحقيق" الاستقصائي على شاشة قناة المملكة.

في عام 2008، ورد اسم مدينة الرصيفة وتلالها في إحدى وثائق "ويكيليكس" المسربة من مراسلات السفارة الأميركية في عمّان إلى وزارة الخارجية الأميركية، والوكالة الأميركية لحماية البيئة.

الوثيقة أفادت بارتفاع نسب الغبار والإشعاعات في المنطقة، وأكدت ارتفاع نسب الذرات العالقة في الهواء الناتج من خامات الفوسفات والمخلفات الموجودة في المكان، والتي يحتمل أن تكون مواد مسرطنة.

كما صدرت منذ التسعينيات العديد من الدراسات الأردنية التي حذرت من خطر الغبار والغازات المنبعثة من تلال فوسفات الرصيفة بعد عقود من عمليات التعدين التي توقفت في منتصف الثمانينيات.

قاسم الشبول، مدير مشروع إعادة تأهيل مناجم الفوسفات في شركة مناجم الفوسفات الأردنية، قال لفريق برنامج "قيد التحقيق"، الذي يبث على شاشة قناة المملكة، إن أعمال التعدين في المناجم توقفت في عام 1985 بسبب الزحف السكاني إلى المنطقة، ونتج عن عملية التعدين تلال من المخلفات، تسمى تلال "قراطة".

اُكتشف منجم الرصيفة للفوسفات عام 1902، وبدأت أعمال التعدين فيه من خلال الأنفاق عام 1935 على مساحة قاربت 1108 دونمات.

"قاتل صامت"

منطقة الفاخورة، التي يبلغ عدد سكانها 4 آلاف نسمة، تبعد مساكن قاطنيها 10 أمتار فقط عن ركام الفوسفات، بحسب رئيس قسم المساحة في بلدية الرصيفة، ربيع الربايعة.

ويصف رئيس اتحاد الجمعيات البيئية عمر الشوشان منطقة الرصيفة بأنها "بؤرة بيئية ساخنة"، مشيرا إلى عدم وجود حلول جذرية حتى الآن لمشكلة تلال الفوسفات "بالرغم من تأثيرها الواضح على الحالة البيئية، وأيضا على سكان المنطقة".

ويحذر وزير البيئة الأسبق ياسين الخياط من تأثيرات سلبية على صحة القاطنين في المنطقة بسبب وجود جيوب غاز، مثل غاز الرادون، وهو غاز مشع.

ويوضح فداء الزعبي، وهو المشرف على دراسة نسب الرادون في عمّان والرصيفة في جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، أن غاز الرادون سام، وهو موجود في التربة وفي المنازل.

"الرادون يعتبر القاتل الصامت لأنه يؤدي إلى الوفاة من دون أن تشعر به،" حسبما قال الزعبي لفريق "قيد التحقيق".

ويقول الدكتور صعب أبو غوش، وهو طبيب عام، إن تأثير غاز الرادون على الإنسان بشكل تراكمي بعد مرور فترة من الزمن، يمكن أن يؤثر على الجلد.

"أكثر المراجعين من حي الفاخورة، وحي أبو صياح يعانون من الأمراض التنفسية، والحساسية ... والتهابات الجهاز الهضمي"، وفقا للطبيب.

في تقريره لعام 2008، نبه المركز الوطني لحقوق الإنسان من خطر هذه المشكلة البيئية على صحة الإنسان، وطالب بتشكيل لجنة صحيّة للكشف وتحديد الأمراض بين سكان المناطق المجاورة.

تقرير المركز الوطني استند إلى تقارير صادرة عن الجمعية العلمية الملكية ووزارة البيئة، وفقا لمسؤول الملف البيئي في المركز، طه العبادي.

أدرجت إعادة تأهيل تلال فوسفات الرصيفة ضمن محاور زيارة وفد وكالة حماية البيئة الأميركية للأردن في أواخر عام 2008.

نسب مرتفعة؟

أحيل عطاء على شركة أميركية للقيام بدراسة الأثر البيئي لتلال الرصيفة، وفي عام 2012 أرسلت الشركة خبراء إلى الأردن لدراسة مجموعة من المواقع، كانت تلال الفوسفات في الرصيفة من ضمنها.

الدراسة شملت تحليلا مخبريا لمواد صلبة لمعرفة تركيز اليورانيوم فيها، كما تضمنت أخذ عينات من هواء المنطقة لتحليل نسب غاز الرادون فيها، حسبما قال إياد بطارسة، وهو متخصص بأنظمة إدارة البيئة.

أبرز ما توصلت إليه دراسة الشركة الأميركية، هو ارتفاع نسب المواد المشعة، وغاز الرادون في موقع التلال عن الحدود المسموحة دوليا.

"بحسب هيئة الطاقة الذرية الدولية، هذا الموقع يحتوي يورانيوم بكمية لا يمكن تجاهلها، وتبين أن هناك خطورة على سكان المنطقة،" بحسب بطارسة.

الخطر الأكبر هو الأثر التراكمي لاستنشاق الغبار والأتربة عبر الجهاز التنفسي؛ إذ يصعب على الجسم التخلص منها، وفقا لسمير الكيلاني، وهو مدير سابق لوحدة الاقتصاد الأخضر في وزارة البيئة.

لكن دخول شركة بريطانية لدراسة آثار تلال الفوسفات تسبب بجدل؛ فقد أظهرت نتائج الدراسة أن معدلات الإشعاعات والرادون في المنطقة ضمن الحدود الطبيعية، على عكس نتائج الشركة الأميركية.

الدراسة الأميركية جمعت عينات من 127 نقطة من مواقع عدة في المنطقة، في حين أن عدد العينات الذي ورد في الدراسة البريطانية لم يكن واضحا، وتراوح بين 50 إلى 64 عينة، وفق معتصم السعيدان، مدير مركز المياه والطاقة والبيئة في الجامعة الأردنية.

"الدراسة الأميركية كانت ممثلة أكثر، وإحصائيا يمكن اعتماد قراءاتها أكثر من الدراسة البريطانية"، وفقا للسعيدان.

مواد مسرطنة

وتابع أن الدراسة الأميركية أفادت بأن معظم العينات تجاوزت 1000 ميلي سيفرت؛ ولذلك فهي أعلى من الحد المسموح به كقدرة إشعاعية، في حين أظهرت الدراسة البريطانية أن القدرة الإشعاعية في معظم العينات كانت أقل من 1000 ميلي سيفرت.

والسيفرت (Sv) هو وحدة لقياس جرعة الإشعاع الموزونة التي تُعْرَف أيضاً بالجرعة المؤثرة. وهو وسيلة لقياس الإشعاع المؤين من حيث مستوى الضرر الذي يلحقه بمن يتعرض له. ويأخذ السيفرت في الحسبان نوع الإشعاع ودرجة حساسية الأنسجة والأعضاء. ونظراً لضخامة وحدة السيفرت يكون من الأجدى استخدام وحدات أصغر مثل المِلّي سيفرت (mSv) أو لميكروسيفرت (μSv)، وفق منظمة الصحة العالمية.

وتقول المنظمة إن الجرعة الحدية لمتلازمة الإشعاع الحادة هي قرابة 1000 ميلي سيفرت، وتضيف أن الإشعاع إذا تجاوز حدوداً معينة، فيمكنه أن يُضعف وظائف الأنسجة و/ أو الأعضاء، ويمكن أن يؤدي إلى آثار حادة، مثل احمرار الجلد، وفقدان الشعر، والحروق الإشعاعية.

وتوضح أن احتمالية حدوث أخطاء في تجديد الخلايا التالفة ترتفع مع وجود إشعاعات؛ إذ تتحول الخلايا إلى خلايا مشعة تفقد القدرة على الانقسام، وهو ما يؤدي إلى إصابة الإنسان بالسرطان بعد مرور سنوات أو عقود.

لكنّ الشبول قال إن الشركة البريطانية هي شركة استشارية تعمل في مجال البيئة، وإنها "شركة عالمية معروفة على مستوى العالم، وشركة متوافق عليها من وزارة البيئة وشركة مناجم الفوسفات"، وأضاف أن ثلاثة مندوبين من الوزارة حضروا عملية أخذ العينات مع الشركة البريطانية.

الشركة الأميركية أدخلت نتائج دراستها على نماذج محوسبة لدراسة مدى تأثير النشاط الإشعاعي على مستقبل الإنسان، في حين أن الدراسة البريطانية لم تحدد مستقبل التأثير الإشعاعي، بحسب السعيدان. إلا أنه تم اعتماد الدراسة البريطانية.

مستشار وزير البيئة للشؤون الفنية جهاد السواعير قال إن الدراسة البريطانية اُعتمدت لأنها الأحدث (2016)، كما أن نتائجها توافقت مع الدراسات والمسوحات الإشعاعية التي قامت بها هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن.

"للتحكيم بين الدراستين ... تم اللجوء إلى طرف ثالث، وهو هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن"، وفقا للسواعير.

إعادة التأهيل

من جهته قال عضو مجلس مفوضي هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن مجد الهواري إن الهيئة ليست جهة تحكيم، ولكن إذا تم استشارتها تقوم بمقارنة نتائجها مع الجهات الخاضعة للتحكيم، وتعتمد نتائج الجهة المطابقة لنتائج الهيئة.

وعلى الرغم من الاختلاف حول نسب الغازات المنبعثة من تلال الفوسفات،إلا أن جميع الدراسات اتفقت على ضرورة إعادة تأهيل المنطقة، وإزالة تلك التلال، وهي مسؤولية مناطة قانونيا بشركة الفوسفات.

"شركة مناجم الفوسفات حققت أرباحا هائلة من هذا المنجم، وعليها ... إعادة تأهيل المناجم كما كانت على قدرة عالية في تسويق منتجاتها على حساب صحة أهالي المنطقة وبيئة المنطقة"، يقول الشوشان.

رئيس بلدية الرصيفة أسامة حيمور شدد على الحاجة لإزالة تلال الفوسفات، ووصفها "بتلوث بيئي كامل متكامل على مدى عشرات السنوات".

وقد لا تكون إزالة التلال هي الحل الأمثل، وفقا لبطارسة، الذي قال إنه يمكن إبقاء جزء كبير من التلال، ولكن يجب إعادة تشكيلها وتغطيتها لضمان عدم تطاير مواد يستنشقها السكان المجاورون.

ويعلق الشبول قائلا إن شركة مناجم الفوسفات مدركة لحاجة إعادة تأهيل المنطقة، وأحالت عطاء على شركة للقيام بذلك، وتسوية التلال بالأرض، وزراعتها بالأشجار.

ويضيف أن الشركة أحالت عطاء لدراسة الأثر البيئي والاجتماعي والإشعاعي على الشركة البريطانية ذاتها بموافقة وزارة البيئة.

لكن السواعير قال إن شركة مناجم الفوسفات اعتقدت أن الدراسات التي أجرتها كافية، وتحل محل دراسة تقييم الأثر البيئي الشامل، فبدأت بتنفيذ المشروع، على الرغم من مطالبات وزارة البيئة لشركة الفوسفات في أكثر من مخاطبة رسمية بضرورة تقديم دراسة الأثر البيئي.

سحب من الغبار

يدافع الشبول عن الدراسة التي أجرتها الشركة كانت "كاملة ووافية، وأخذت كل الجوانب حتى دراسة الأثر الاجتماعي".

هنا اختلفت الروايات بين وزارة البيئة وشركة مناجم الفوسفات حول الدراسة، فالوزارة قالت إن دراسة تقييم الأثر البيئي قدمت لها منذ شهر، في حين قالت شركة الفوسفات إن الدراسة لا تزال قيد العمل.

ويعلق حيمور بأن شركة المناجم بدأت بإزالة تلال الفوسفات بدون تقديم دراسة للأثر البيئي.

"هذا برأيي تحايل على القانون، وعلى نظام تقييم الأثر البيئي، واستهتار بالصحة العامة، وبالمعايير والأسس التي على أساسها يتم إنشاء وإدارة المشاريع التي تتم في المملكة الأردنية الهاشمية"، وفقا للكيلاني.

كاميرا "قيد التحقيق" وثقت سحب الغبار المنبعثة من عملية هدم، وإزالة تلال الفوسفات، ونقلها على مدى زيارات متكررة.

"هناك آلية للإزالة لم تلتزم بها لغاية الآن الشركة التي رسى عليها العطاء. لا بد من رشاشات مياه لتخفيف الوضع البيئي على الأقل"، وفقا لحيمور.

البطارسة أيد ما قاله حيمور، موضحا أن في موقع مثل تلال الفوسفات، "أهم شيء السيطرة على الغبار؛ لأن الخطورة تكمن في استنشاق هذه المادة، فالمفروض أن يكون العمل في منطقة ليست جافة كليا، بل شبه رطبة". كما يجب أن تغطى الشاحنات التي تنقل أكوام الفوسفات وتنظف.

من جهة أخرى، يقول الشبول إن عمليات نقل الفوسفات إلى حفر التعدين أو مناطق الكرابين -- حيث يتم فصل مكونات مادة الفوسفات وطحنها -- تتم بسرعات لا تتجاوز20 كلم.

السواعير يقول إنه رش الفوسفات بالمياه عند التحميل إلى الشاحنات، ويتم استخدام مدحلة للتقليل من انبعاث الغبار، والمواد تنقل عبر طريق ترابي فرعي لمنطقة تبعد نحو 3.5 كلم شرقا.

"بعد إزالة حوالي نصف مليون متر مكعب من تلال الفوسفات، تم تغطية المنطقة، وتم إعادة تأهيلها بغطاء ترابي حتى أصبحت الآن متنزها للسكان المجاورين"، بحسب الشبول.

كما الحال في عملية الهدم والنقل، تفتقر عملية الكربلة لمعايير السلامة العامة، وفقا لحيمور.

"تتم الكربلة على بعد 3.5 كلم من موقع التلال شرق المنطقة، في منطقة بعيدة عن السكان" بحسب السواعير.

وقاية "غير كافية"

على الخريطة، يشير الربايعة إلى أن منطقة كربلة الفوسفات تبعد عن المنطقة السكنية 1-1.5 كلم عن منطقتي أبو صياح وحي الفاخورة.

"نقل أكوام الفوسفات من الموقع الحالي إلى موقع آخر ينتج عنه تلويث الموقع الجديد بالمواد المشعة... (الذي) يعتبر مجرى الحوض المائي المغذي لحوض عمّان الزرقاء"، يقول الكيلاني.

هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن صنفت العاملين في المشروع على أنهم "عمال إشعاعيون" ويجب إخضاعهم إلى شروط ومعايير تتعلق بالسلامة.

"العامل الإشعاعي حسب التعريفات العالمية، هو الشخص الذي يمكن أن يتعرض لعشرة أضعاف الجرعة الإشعاعية السنوية"، وفقا لعضو الهيئة مجد هواري، الذي قال إن صاحب العمل مطالب بتوفير متطلبات السلامة.

ويقول الشبول إن الشركة تسلم العاملين أجهزة وقاية من الغبار، وملابس سلامة عامة. "نحن كشركة ملتزمون التزاما كاملا"، لكن التزام العامل مرتبط بثقافته، على حد قوله.

فريق برنامج "قيد التحقيق" التقى عاملا سابقا في مشروع إزالة التلال، الذي قال بدوره إن العمال لم يتلقوا تحذيرات عن الإشعاعات، سواء من المناجم، أو من قطاع الطاقة، أو من شركة الفوسفات.

"صرفوا لنا كمامات عادية وبسيطة جدا ... هذه الكمامات لا توفر وقاية كافية، ولا تحمي من غبار الفوسفات الذي يدخل المجرى التنفسي يوميا"، بحسب العامل السابق في المشروع.

المملكة