كشفت قناة "المملكة" بعد أشهر من العمل والتقصي، عن استقطاب مؤسسة خارجية تزعم بأنها "تطوّر وتنمي السلوك" معلمين ومعلمات؛ للعمل معهم على تعديل سلوك طلبة مدارس ومراكز التدريب المهني.

الفيلم الاستقصائي، الذي أعدته "المملكة" كشف وجود منهجية منظمة لإيقاع العقاب البدني على الطلبة، مقابل مبالغ مادية مقطوعة تدفع للمعلمين.

لجأت سلام "اسم مستعار" قبل أشهر إلى قسم التحقيقات الاستقصائية في قناة "المملكة" بعد محاولة مؤسسة خارجية تطلق على نفسها "معاهد ومدارس التطوير والتنمية السلوكية" استقطابها للعمل كمدرّسة تعديل سلوك داخل إحدى المدارس، أو مراكز التدريب المهني في الأردن.

وطلبت المؤسسة من سلام أن تنفّذ منهجيات سلوكية مزعومة لم تألفها كتب العلم من قبل، أو أنها نسج من وحي الخيال، بقصد ما أسموه "تقويم سلوكيات الطلاب وتصويرهم، مقابل مبالغ مادية مقطوعة".

أحمد حمدان، الاختصاصي في علم النفس الإكلينيكي، قال لـ "المملكة" "عندما يمارس مع الطفل هذا السلوك بشكل يومي أو أكثر من مرة أسبوعيا وأمام زملائه أو أمام العامة، يؤدي إلى أن هذا الشخص يتقبل الموضوع، وهذا الخطر بالموضوع".

وقال أستاذ علم الاجتماع والإعلام، حلمي ساري لـ "المملكة": إنه "بصرف النظر عن الفلسفة التي يستند إليها هؤلاء المعلمون أو المعلمات اللواتي والذين كانوا يضربون الأطفال هي فلسفة لا تتسق مع القيم الإنسانية، وفيها هدر للكرامة الإنسانية.

حمدان، قال: "لا يوجد شيء اسمه عقاب بهذه الطريقة، وهذا إخضاع حسب ما رأيت في الفيديوهات، وأعتقد أن الشخص الذي يقوم بالتعنيف كان يقع عليه عنف جسدي مسبقا، أو عنده طفولة بائسة، أو انتهاكات جسدية في صغره، وينتقم من المجتمع".

"الخطير في هذه الفيديوهات هي منهجة هذه السلوكيات الشاذة، والهدف منها واضح بأنه خلق وتدمير وعي هؤلاء الأطفال من خلال مسح أدمغتهم، وإحلال مفاهيم مشوهة معرفية ومنها الشذوذ الجنسي" وفق حمدان.

وتصنف مدارس ومعاهد التطوير والتنمية السلوكية نفسها بحسب ما قال أحد مسؤوليها بأنها "مشروع إصلاحي تقويمي بدعم من مؤسسات متعددة وأفراد مجتمع، وشركات متخصصة في تقديم الخدمات التعليمية والتربوية للأحداث".

"صدمت بالمناظر التي رأيتها ‘شفتها‘ في هذه اللقطات، وأبلغت من البداية أن هذه الفيديوهات قضائية، وتدين الأشخاص الذين يجرون مثل هذه الأعمال" وفق ساري.

"اللقطات تروج للعنف وللذل لتدمير جيل بأكمله، وتجعل هؤلاء المعرضين للضرب في يوم من الأيام بأن يصبحوا مشاريع مجرمين، وأشخاصا امتهنوا الذل، وبالتالي لا يمكن القبول بهذا الأمر" يقول المشرف التربوي سليمان حمادنة لـ "المملكة":

"وجدت في أحد الأيام رسالة على (الماسنجر) من شخص أرسل لي عن حملة لبعض الأشخاص منهم طلاب يهددون معلمات بالتعدي على بناتهم بسبب عقابهن، واستفسرت عن العقاب فأبلغوني بأنهم يعملون على تأهيل سلوك الطلاب كي يتأدبوا" وفق سلام.

وأضافت "كانت ردة فعلها في بداية الموضوع استدراجي للإكمال معي، إن هؤلاء الطلاب بعد انصياعهم لهم يجب أن يشعرون بالإهانة والعبودية".

سلام قالت لـ "المملكة" "في بداية الأمر عندما أبلغتني عن وجود طلاب يتمردون على بعض المعلمات والمعلمين، وهنا فكرت بالموضوع قليلا، ووصلت إلى فكرة بأن هذا الأمر سيكون صعبا عندما طلبوا بأن يكون عقاب الطلاب من خلال ضربهم وهم يرتدون الملابس الداخلية لهم".

وبعد أن دخل اليقين إلى قلب مشرفة معاهد ومدارس التطوير والتنمية السلوكية، بأن "سلام" أتقنت الجانب النظري من شرح وفهم لمنهجية الضرب بـ "الفلقات" على مؤخرة الطلاب، طلب منها أن تتقدم بطلب رسمي بغية الانضمام لهم.

سلام قالت "المؤسسة بدأت بإقناعي بأن الهدف أن ينصاع الطلاب لهذا العقاب عبر تعنيفهم، وهذا يناقض ما يقولون بأنه تأهيل الطلاب سلوكيا ونفسيا".

خلال ساعات تصل رسالة نصية عبر تطبيق "واتساب" من رقم بريطاني يفيد بوصول طلب " سلام" إلى هذه المدرسة، وإنه جرى إعطاؤها رقما للطلب المقدم حال رغبتها بمراجعتهم أو الاستفسار عن حال الطلب.

وقالت سلام "أرسلت لي بعض الفيديوهات لبعض المعلمات التي يزعمون بأنها تأهيل سلوكي لبعض الطلاب في حال انصاعوا لهم خلال الدرس وحلّ جميع واجباتهم، وعند عدم التزامهم سيعاقبون بالضرب على المنطقة الخلفية في جسمهم بطريقة مهينة تصل إلى 50 مرة في الأسبوع للطالب غير الملتزم".

أستاذ علم الاجتماع والإعلام حلمي ساري، قال، إن "ما ينجم عن هذا النوع من الضرب والعنف آثاره مدمرة على الجميع على الطالب وعلى المعلم نفسه؛ لأنه كان لديه مشكلة في شخصيته، فيضرب ويتلذذ، وما رأيناه شيء مؤلم ويجعلنا نتوقف لنرى كيف يمكن أن نعالج ويكون بإطلاع وزارة التربية والتعليم على ما يحدث في هذه المدارس ووزارة التنمية الاجتماعية المسؤولة عن دور الرعاية وإطلاع الأهالي أنفسهم على ما يتعرض لهم أبناؤهم من طريقة مهينة في التعامل مع إصلاحه وتعديل سلوكه".

وقال حمدان، إن "الأمر الغريب أن تقوم إناث بضرب الطلاب المراهقين بهذه الطريقة المهينة، وخارج عن الأطوار الطبيعية، وأصبح في حالة من الخضوع، ويفاوض فيها على طريقة العقاب" موضحا أن "هذا العقاب لا يندرج تحت بند تعديل السلوك، أو تعديل أي تشوه معرفي موجود عند أي إنسان، وهذا عمل ممنهج 100%؛ لخلق مجتمع مشوه".

وتظهر الصفحة الشخصية لمالكة هذا المشروع عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بأنها متخصصة في علم النفس، وتعرف نفسها على أنها "مديرة مشروع مربيات العرب" وسبق لها أن عملت لأكثر من 15 عاما معلمة للغة الإنجليزية، كما أنها صاحبة الامتياز لمعاهد التنمية والتطوير السلوكي في الشرق الأوسط ودول المغرب العربي.

الأمر الصادم خلال العمل على هذا التحقيق أن هذه المنظمة ما زالت تعمل منذ أكثر من ثماني سنوات بحسب إعلانات قياسية تنشر عبر صفحات بعض مؤسسيها، وأن الغاية استقطاب معلمات صارمات، وفق شروط محكمة، على أن تعطى الأولوية لمن لها خبرة في سلوكيات التمرد، وفي المقابل تقدم لهم إغراءات مادية غير محدودة.

سلام، قالت "أحد اللقطات التي وصلتني من المؤسسة كانت لطفل يضرب في أحد المدارس، ويتوسل المعلمة ألا تضربه، ويقول إنه لن "يعيدها مرة أخرى" موضحة أن "كمية الضرب التي انهالت عليه كان فيها توحش، ولم تكن لتأهيل سلوك، وكل ذلك من أجل أن تتقاضى المعلمة لقاء ذلك مبالغ مادية".

ودعا حمدان الأهالي إلى التحاور مع أبنائهم ليعرفوا ماذا يحدث معهم في المدرسة، قائلا، إن "سلوكيات الضرب هذه قد تؤدي إلى تشوه معرفي للطفل، ومن الصعب إعادته إلى وضعه الطبيعي بعد أن أصبح لديه مشكلة لمفهومه عن ذاته وشخصيته ونفسه".

أستاذ علم الاجتماع والإعلام، حلمي ساري، قال، إن "هذه الطريقة لا تدل لا على أخلاق معلم ولا على فلسفة تعليم؛ فهي عبارة عن هدر للكرامة الإنسانية، وتفقد الطفل ثقته بنفسه، وهذه الفلسفة قائمة على خفايا فيها نوع من الكامن وغير الواضح فيما يتعلق في البعد الذي تربي إليه هذا أمر آخر".

وأضاف: "ما رأيت وما شاهدت لا يتوافق ولا ينسجم مع الأسس التربوية الحديثة في التعليم".

المستشار الأول للطب النفسي للأطفال والأحداث، أمجد جميعان قال لـ "المملكة" إن "هذه المرحلة للطفل هي مرحلة تكوين شخصيته حتى يصبح إنسانا يافعا محترما، وعندما يضرب الطفل بهذه الطريقة وعلى المنطقة الخلفية من جسمه، وهي طريقة مهينة".

حمدان، قال، إن "ما رأينا من مشاهد هي من بلدان مختلفة موجودة في الوطن العربي، ويدل على أن العملية ممنهجة، بأن طريقة العقاب لا تختلف من مدرسة إلى أخرى، أو من بلد إلى آخر".

المشرف التربوي سليمان حمادنة، قال "إذا حصل هذا الأمر، فالطالب الذي سيكون سلوكه غير سوي سواء بنظرته للمعلم بدلا من أن تكون نظرة حب واحترام وأخلاق، ويصبح هذا الطالب يكره معلميه والمدرسة أو يكره أولياء الأمور، وقد يبدأ بتطبيق ذلك على زميله أو شقيقته أو أبناء أخيه، مما يشوه صورة المجتمع".

لكن ما كان مقلقا؛ ما وجدناه أثناء البحث في الموقع الإلكتروني الخاص بهذه المؤسسة، فبعد أن يتم اختيار المعلمات يقدم لهم على مدار 6 أشهر "دبلوم معيدة تأهيل سلوكي" من جامعة أكسفورد أو كامبردج.

سلام، تقول، إن "المؤسسة كانت تشير لها إلى أن من يقومون بهذا العقاب أو التأهيل السلوكي لطلبة في سوريا والأردن ومن المغرب العربي، ودول الخليج، ومكان عمل المؤسسة من دول الخليج".

وأضافت أن "المؤسسة تستغل احتياجات الناس المادية في ظل الأوضاع المادية الصعبة وتطلب استقطاب آخرين مقابل مبلغ مالي يدفع أسبوعيا بشرط تطبيق العقاب المطلوب وتصويره عبر الفيديو".

وقال المستشار الأول للطب النفسي للأطفال والأحداث أمجد جميعان: "أعتقد أن هذه الشخصيات مضطربة، والمعلمة التي تضرب بهذه الطريقة لديها مشكلة، وأخرى كانت تحمل عصاة وتشير إلى طريقة الضرب اعتقد بنسبة 100%، بأنها تعاني من أحد أنواع اضطراب الشخصية".

وتواصل فريق "قيد التحقيق" عبر خطاب رسمي مع إدارة جامعة كامبردج، ليأتي الرد بعدم وجود تخصص يتعلق بتأهيل السلوك وفق المنهجية المتبعة من هذه المؤسسة، وبالتالي لا صحة لهذه الشهادة أو الدورات المقدمة من طرفهم، وكذلك الأمر مع جامعة أكسفورد بحسب البريد الإلكتروني المرسل من قبلهم.

وقالت سلام: "شعوري لا يوصف، ونفسيتي تعبت كثيرا ووضعت نفسي مكان الأهالي الذين يأمنون على أبنائهم في المدارس والمعاهد المهنية" مشيرة في الوقت ذاته إلى أن بعض الأهالي "يعتقدون أن الضرب الذي تلقاه أبناءهم في المدارس أمر عادي مثل الذي كانوا يتعرضون له في مدارسهم في الماضي".

ساري قال، إن "ما شاهدته في هذه اللقطات يثير الرعب والقلق بأن تسمح هذه المدارس لمعلم أو معلمة بأن تضرب الطلاب الأطفال أو الشباب بطريقة غير لائقة وغير إنسانية وذات دلالات توحي بالاشمئزاز بأن تطلب من الطلاب أن يضربوا بطريقة سيئة أمام زملائهم، في وقت كان فيه بعض الطلبة يضحكون عليه".

"هذا الضحك للطفل قد يكون لأنه يعرف بأنه يصوّر، ولا يريد أن يبدو ضعيف الشخصية، أو قد يكون المقصود منه خلق جيل يتقبل الضرب ويتلذذ بالضرب، ويشتهي الضرب، ولعل هذه المدارس التي تقوم على هذا النمط من التدريب والتدريس وإعادة السلوك ترمي أبعادا جنسية، ونحن بحاجة إلى إعادة النظر فيها وبأساليبها" وفق ساري لـ "المملكة".

جميعان، قال: "برأيي الشخصي كطبيب ومربي أن الولد الذي يضرب بهذه الطريقة ويمد جسمه بهذه الطريقة على المقعد في الصف ويدير خلفيته أمام المعلم، ويضرب بهذه الطريقة، فهذه تربية ذل ويصبح الطفل إنسانا غير ناضج، وممكن أن يتقبل أي شيء عليه في حياته".

وتتخذ معاهد ومدارس التطوير والتنمية السلوكية بحسب ما يظهره الموقع الرسمي التابع لهم من مدينة دبي مقرا لهم، تواصلنا مع هيئة المعرفة والتنمية البشرية عبر البريد الإلكتروني للتأكد من تراخيص هذه المؤسسة، ليأتي الرد أنه لا توجد في سجلات الغرفة رخصة رسمية باسم معهد التطوير والتنمية السلوكية.

تقول صابرين دحبور، إحدى الحالات التي عرض عليها العمل مع هذه الشبكة لـ "المملكة": "راودني شكوك أن هذه الأمور مطبقة في الأردن، للحديث عن إمكانية تطبيقه بالفعل بشكل علني، كونها ترسل فيديوهات من مدارس في الأردن، تؤكد وجود هذا الشيء في مركز أو بمدرسة، وما أتمناه أن لا تكون هذه الأمور موجودة".

وأضافت "جرى استقطابي من بعض الأشخاص على صفحة على فيسبوك، طلبوا مني أقوم بتعنيف الأطفال مقابل مبلغ مالي أحصل عليه لاحقا".

ويقسم عمل معاهد ومدارس التطوير والتنمية السلوكية إلى قسمين الأول يعمل على استقطاب المعلمين والمعلمات في عدد من الدول العربية، والآخر يتعلق بتقديم الدعم لأصحاب المشاريع الريادية المتخصصة في فئة الشباب، أو من خلال دعم أصحاب الجمعيات الخيرية، أو المعاهد المهنية، والأكاديمية، مقابل تطبيق المنهجية السلوكية الخاصة بهم.

وأجرت مديرة مدارس التطوير والتنمية السلوكية محاولات عديدة لإقناع "صابرين" العمل معهم، من خلال إرسال فيديوهات ضرب طلاب داخل مدارس محلية لإثبات الوقائع، وتوثيقها من خلال إرسال أسماء المدارس، وبعض من الجمعيات الخيرية التي تتعاون معهم على تطبيق منهجيتهم السلوكية.

دحبور تقول، إن "المديرة تواصلت معي وبدأت تشرح لي عن طريقتهم وتعطيني محفزات للعمل معها .. خصوصا عندما علمت أني أريد إنشاء أكاديمية تدريب وتعليم" مشيرة إلى أنها بدأت تقول لها إنها ستدعمها ماديا.

وأضافت دحبور أن المديرة "أخبرتني بأن مدارس تنموية في محافظة جرش متعاونة معها" مؤكدة أنها رفضت العرض دون "كتب رسمية".

وتابعت أن المؤسسة "لم تعرف حد التوقف عن تقديم العروض ... يحاولن إقناعي بالتعامل معهم ... بقيت تحاول معي".

فريق قيد التحقيق طلب من سلام أن تعمل على متابعة الحديث مع مشرفة معاهد ومدارس التطوير والتنمية السلوكية، في محاولة للحصول على أدلة دامغة على أماكن عملهم في المملكة، لكن وجد أن عملية قبول المعلمات للعمل لديهم تخضع إلى مراحل عديدة.

حيث قالت سلام، إن "المديرة سترسل لها عصا ولبسا خاصا بعد التأكد من موافقتها" وبينت أن المديرة استمرت بإرسال مقاطع مصورة لأطفال يعنفون بهذه الطريقة في منازل أردنية ومنازل في بلدان أخرى.

لكن الفريق طلب من سلام فيما بعد، التوقف عن متابعة العمل معهم، لما فيه من خطورة على حياتها.

وبعد أربعة أشهر من العمل على هذا التحقيق، وما جرى توثيقه من شهادات، وسماعه من مختصين بأن العلاج النفسي والسلوكي قد لا يؤتي أكله مع الطلاب المعنفين نتيجة تكرار ممارسة السلوك عليهم، لكن ارتأينا أنه لا بد من إيقاف هذه المنهجية؛ حماية لأجيال مقبلة قد تشوه معرفيا وسلوكيا.

المملكة