متعرجات خطيرة على طول 14 كيلو مترا، هي أول ما يستقبلك في الطريق غير المعبدة والصخرية الوعرة، التي يقطعها السكان مشياً على الأقدام أو على ظهور الدواب. استغرقتنا أكثر من ساعة بسيارة رباعية الدفع، من الشارع الالتفافي وصولا إلى حاجز إسرائيلي نصبته قوات الاحتلال على مداخل بعض القرى والخرب بعد إعلان المنطقة "مناطق إطلاق النار918" التي لا يسمح باجتيازها إلا لأهالي الخرب والقرى.

هنا يتوقف بك الزمن؛ حيث لا شبكات كهرباء، أو هاتف أو صرف صحي أو طرق؛ إذ يعيش أهالي مسافر يطا حياة بدائية في خيام ومساكن من الصفيح، أو في الكهوف، تفتقر جميعها إلى الحد الأدنى من شروط الحياة الانسانية، وهي معزولة عن العالم الخارجي، بالإضافة إلى تكبيلها بأكثر من ثماني مستوطنات أو بؤرة استيطانية وعدد من معسكرات التدريب لجيش الاحتلال التي تذيق العائلات أصناف العذاب. ورغم قسوة الحياة يأبى ما لا يقل عن 1200 من أهالي مسافر يطا المهددين بالتهجير القسري التفريط بحقهم في أرضهم، ويؤكدون تمسكهم بها مهما حدث.

وتتكون المسافر من 23 خِربة وقرية، يسكنها أهالي يطا وبدو هُجروا من مناطق بئر السبع والنقب. بينها 8 خرب يقطنها 1200 فلسطيني مهددون بالإخلاء، بعد إعلانها مناطق عسكرية مغلقة لأغراض ما يُسمى مناطق "إطلاق النار 918 " ورفض "العليا الإسرائيلية" في مايو/ أيار الماضي التماسا مقدما من أهالي 12 تجمعا سكنيا في مسافر يطا ضد قرار الاحتلال إعلانها مناطق "إطلاق نار" ونتيجة لذلك؛ أصبحت المجتمعات التي تعيش فيها عرضة لسلسلة من السياسات والممارسات التي قوّضت أمن السكان وزادت من تردي ظروف معيشتهم وارتفاع مستويات الفقر والاعتماد على المساعدات الإنسانية، إضافة إلى ذلك؛ أصبحت هذه المجتمعات عرضة لخطر التهجير القسري.

وتعرض أهالي المسافر إلى عملية تهجير عام 1999، تبعتها عشرات عمليات الهدم للمنازل والمدارس والمساجد.

وتقع مسافر يطا ما بين الشارع الالتفافي 317 إلى خط الهدنة 1949 من الجنوب، وتتداخل أراضيها مع أراضي عام 1948، وجميعها مصنفة مناطق (ج) وتقع تحت سيطرة الاحتلال الاسرائيلي بالكامل.

"هنا أرضي، ومسقط رأسي، أرض والدي وجدي، هنا كل شيء يعني لي، ورثنا عن أجدادنا الأرض والرعي والكهوف، وسنصمد؛ لأن أرضنا ملكنا، لا يمكن أن نتركها، وسيرثها أحفادنا أيضا، ولن يتركوها" هذا ما قاله المواطن الفلسطيني خالد جبارين (53 عاما) من خربة جنبا في مسافر يطا.

وأضاف: "نعيش معاناة شديدة؛ بسبب الاحتلال ومستوطنيه، فأرضنا مستهدفة، وحكومة الاحتلال تشجع المستوطنين على الاعتداء علينا، ويحاولون إخراجنا من أرضنا، لكننا لن نخرج منها مهما حدث".

وأشار إلى أنه ومنذ بداية الخمسينيات من القرن المنصرم؛ بدأ الاحتلال الإسرائيلي باستهداف منطقة المسافر، واستشهد أربعة من أبنائها آنذاك، وحتى اللحظة يعاني الأهالي من الاعتداءات اليومية من قوات الاحتلال ومستوطنيه الذين يعتدون على الرعاة وعلى منازل المواطنين، ما أجبر جميع العائلات على وضع حمايات حديدية على النوافذ.

ومن خربة المفقرة، يقول الفلسطيني نعمان حمامدة: "الاحتلال تسلط علينا وتجبر علينا، نعاني من التضييقات التي تمارسها قوات الاحتلال والمستوطنون على رعاة الأغنام، ومنعنا من رعي مواشينا ومن حرث الأرض".

وأضاف: "ولدنا على أرض المسافر، وتاريخنا كله يعود إلى هذه الأرض، وسنبقى صابرين وصامدين، ولن يخرجنا منها إلا الموت".

من جهتها، تقول المواطنة رابعة حمامدة (70 عاما) من خربة المفقرة: "أعيش في هذا المنزل أنا وأحفادي وسأموت به، والاحتلال ومستوطنوه يعتدون علينا، ولن نخرج من أرضنا مهما حدث".

وفي مغارة ورثتها وعائلتها عن جد زوجها، تشعل المواطنة نعيمة حمامدة (50 عاما) الأم لـ8 أبناء من خربة جنبا، الطابون لصناعة الخبز وطهي الطعام في ظل غياب غاز الطهي عن القرى والخرب، وتقول: "نار الطابون لا تنطفئ في المسافر".

مغارة فيها سيدة تعمل على الخبز في الطابون. (وفا)

وأضافت: "كانت العائلة تمتلك في السابق أكثر من 250 رأس غنم، والآن لم يتبق لنا إلا 150 رأسا. فجميع العائلات عانت من تراجع أعداد الماشية؛ بسبب غلاء سعر الأعلاف والمياه والتضييق على أهالي المسافر في المراعي من المستوطنين ومن جنود الاحتلال الإسرائيلي".

"إن أحوال المواطنين في مسافر يطا، تحمل في طياتها فصولا من الملاحقة والإهمال والتضييق والتهجير على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي تدمر مقومات حياتهم بذرائع مختلفة، منها منطقة إطلاق نار أو التوسع الاستيطاني" هذا ما يقوله رئيس مجلس قروي المسافر نضال أبو عرام.

ويضيف أن غالبية أهالي القرى والخرب المهددة بالتهجير في مسافر يطا يمتلكون وثائق ملكية تعود لفترة الخلافة العثمانية.

ويعتاش أهالي القرى والخرب على تربية المواشي والأغنام وعلى الزراعة بدرجة أقل، وقد تعرضوا لسياسة الترحيل والتهجير القسري من الاحتلال الإسرائيلي وللتهديد والحرمان من أي حقوق، وتنعدم لديهم مقومات البنية التحتية والخدماتية.

وتابع: إن العائلات تعاني من التضييقات في محاولة لدفعها لترك أراضيها والعزوف عن ممارسة مهنة آبائهم وأجدادهم في رعي الأغنام؛ إذ سعت قوات الاحتلال والمستوطنين إلى منع الرعاة من الرعي، بالإضافة إلى غلاء سعر الأعلاف الذي يفوق القدرة المادية للرعاة، فباتت تربية الأغنام عبئا عليهم، ولا تسد حاجتهم، مما دفع غالبية الشباب والرجال إلى العمل في الأراضي المحتلة عام 1948، وترك رعاية الأغنام إلى زوجاتهم وبناتهم.

وعن شبكات المياه، قال أبو عرام: "تم إنشاء شبكة مياه في القرى والخرب المهددة عام 2018 بدعم من الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة" يونسيف" وبتنفيذ من منظمة ضد الجوع ACF ، وتعرضت في عام 2019 إلى اعتداء من قوات الاحتلال التي قامت بقطع أكثر من 5 كيلو مترات من التمديدات، ودمرت 10 كيلو مترات منها بشكل كامل، مما دفع أهالي المسافر إلى الاعتماد على آبار جمع المياه إلى اليوم".

وأشار إلى تزويد القرى والخرب بالخلايا الشمسية على مراحل، إذ زودت الفخيت واصفيّ ومغاير العبيد عام 2011، بينما زرعت خلايا شمسية مركزية للتجمع عام 2016 في المركز، وجنبا، وحلاوي، والمجاز، وخلة الضبع.

وأشار إلى أن الحصار والتضييق لم يوقف تطلعات سكان القرى والخرب المهددة في بناء 5 مدارس ابتدائية، والتي يضطر الأطفال إلى المشي لمسافة أربع كيلو مترات للوصول إلى الغرف الصفية. وفي قرية الفخيت مدرسة ثانوية واحدة يضطر الطلبة للسير لها أكثر من 7 كيلو مترات. ويبقى نجاح المسيرة التعليمية رهنا بمزاجية جنود الاحتلال بالسماح لهيئة المدرسة والطلاب باجتياز بوابة عسكرية محكمة الإغلاق وبتصاريح خاصة وتفتيش، وما يرافق ذلك من إهانة وإذلال كل يوم، والتنغيص على الطلبة المرهقين أصلا من رحلة وصولهم إلى المدرسة على ظهور الدواب أو مشيا على الأقدام، في جبال وعرة وفي ظروف جوية قاسية.

ولفت إلى أن نسبة الأمية في صفوف أبناء المسافر مقاربة لنسبة الأمية في فلسطين، وأن الإناث أكثر إقبالا على الدراسة الجامعية.

كما تعرضت مدرسة في قرية اصفيّ للهدم عام 2022، واستولى الاحتلال على الخيمة التي يدرس فيها الطلاب.

وحول الرعاية الصحية، قال: "هناك عيادة صحية بسيطة تعمل يوما في الأسبوع، وتقوم بتزويد المصابين بالأمراض المزمنة بالأدوية وإجراء بعض الفحوص السريرية" مشيرا إلى صدور أمر هدم من سلطات الاحتلال للعيادة الصحية المحلية.

ولفت إلى أن الخرب والقرى تعاني من الشوارع الوعرة وغياب الطرق الممهدة التي تسهل حركة المواطنين وتنقلهم وتخدم التجمعات.

لجأ فلسطينيون في مناطق "ج" وتحديدا في مسافر يطا إلى الكهوف، وقامت العائلات بترميمها وتأهيلها لتصبح صالحة للسكن، لمواجهة خطر الهدم والتهجير الذي تنتهجه اسرائيل التي تمنع البناء في هذه المناطق، وتعتبر المنازل الفلسطينية فيها غير قانونية.

وحول الكهوف، قال رئيس مجلس المسافر نضال أبو عرام "منذ ثمانينيات القرن المنصرم، عمدت عشرات العائلات للعيش في الكهوف المنتشرة، وتستخدمها أيضا للمواشي والأغنام، وذلك لمواجهة قرار سلطات الاحتلال بترحيلها وهدم منازلها".

وأوضح أن القرى والخرب المهددة بالتهجير فيها أكثر من 300 كهف مسكون، أو صالح للسكن، يعود عدد منها إلى العصر الكنعاني، بالإضافة إلى بركة مياه تستخدم إلى الآن تعود للعصر ذاته في خربة جنبا، بينما هناك كهوف ومغر تعود للعهد العثماني.

وأشار إلى أن المطلب الأساسي لأهالي المسافر المهددين بالتهجير القسري، أن يبقوا آمنين في قراهم والسماح لهم بالبناء، وتوفير مصدر رزق للعائلات من خلال التعزيز الاقتصادي لهم وتزويدهم بالأعلاف والمياه، بالإضافة إلى تعزيز المقاومة الشعبية السلمية لدعم صمودهم وتعزيزه، والضغط من المجتمع الدولي لوقف تهجيرهم.

ودعا المؤسسات الأهلية الفلسطينية والدولية إلى تطوير مشاريع لدعم صمود أهالي المسافر، وضرورة تفعيل تدخلات المنظمات الدولية والمانحين والمنظمات غير الحكومية الفلسطينية في إطار مهمته لحماية وتعزيز وجودهم، وتحقيق مزيد من الإنصاف لهم في التنمية والخدمات.

وفي المغارة أو "الطور" حسب تسمية أهالي المسافر، يعيش المواطن نعمان حمامدة (58 عاما) من خربة المفقرة مع زوجته وطفلته، ويقول: ورثت المغارة عن جدي الذي أعاد حفرها بنفسه.

ويضيف أن المغارة التي تعيش فيها عائلته تقدر مساحتها بـ 80 مترا مربعا، وتتكون من مطبخ وغرفة نوم وغرفة معيشة، مؤكدا أن الكهوف شكلت ملجأ لأهالي المسافر من قسوة الأحوال الجوية، والآن تشكل ملاذا لهم من هدم المنازل ومحاولة التهجير القسري خاصة بعد إعلان المسافر منطقة إطلاق نار.

وأشار إلى أن لديه أوراق حصر ملكية لـ12 دونما يمتلكها في المسافر، وأنه يمتلك مغارة أخرى كان يربي بها الماشية قبل أن يضطر لبيعها، بسبب ضيق الحال وعدم جدوى تربية الماشية لغلاء أسعار الأعلاف والمياه.

ويرى المنتدب من هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لدعم ومساندة أهالي مسافر يطا محمود زواهرة أن الكهوف باتت ملاذ المواطنين في مناطق (ج) في الضفة الغربية؛ بسبب السياسات الإسرائيلية التي تستهدف الوجود الفلسطيني.

وعن دور الهيئة قال، إنها عمدت وخلال السنوات الماضية، على توفير الدعم اللوجستي للمواطنين في مناطق "ج" ومنها مسافر يطا، وقامت بترميم وتأهيل عدد من الكهوف المهجورة وغير المسكونة من قبل، وجعلها صالحة للسكن واستيعاب عائلات فلسطينية، لافتا النظر إلى أن سلطات الاحتلال تمنع دخول مواد البناء إلى المسافر، وأن الهيئة بصدد إنشاء متحف للتاريخ المادي والمعنوي لأهالي المسافر.

وأكد أن قرار ترحيل السكان قسريا لأهالي المسافر، هو قرار سياسي يهدف إلى السيطرة والاستيلاء على أراضي المواطنين لخدمة المشاريع الاستيطانية، وربط مستوطنة "كريات أربع" مع مستوطنات جنوب الخليل مع أراضي الـ1948، ما ينهي إمكانية إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافيا.

وحذر من المخاطر الناجمة عن تهجير أهالي مسافر يطا، الذي سيسهل عملية الاستيطان، وبناء سلسلة من المستوطنات شبيهة بمستوطنات "غوش عتصيون" و"أرئيل" و"معالي أدوميم" وربطها بشبكة من طرق وبنية تحتية مع الجنوب، تحديدا مع تل عراد وبئر السبع، وهذه العملية ستشكل تطهيرا عرقيا للسكان الفلسطينيين في تلك المنطقة، وستؤدي إلى طمس الموروث الثقافي الفلسطيني الفريد من نوعه في المكان، وستؤثر على مصدر رزق مئات العائلات التي تعتاش على تربية الماشية والزراعة، داعيا إلى ضرورة تعزيز المقاومة الشعبية لدعم صمود أهالي المسافر.

وفا