ما إن أعلن الاحتلال انسحاب قواته البرية من داخل مدينة خان يونس، جنوب قطاع غزة، ومناطق أخرى من القطاع، حتى انطلق آلاف المواطنين لتفقد بيوتهم وممتلكاتهم، قبل أن يعود معظمهم إلى خيام النزوح في رفح بعد أن تيقنوا أن بيوتهم تحولت إلى خراب، أو ربما "تبخرت"، وأن المدينة لم تعد صالحة للعيش الآدمي، كما قال بعضهم.

لم تستطع السيارة دخول مدينة خان يونس، من شارع البحر المدمر، اجتازها فريق "وفا" مشيا على الأقدام.. الشوارع المعبدة اختفت، ولا أسفلت ولا بلاط، وكلها أصبحت رملية ومليئة بالحفر الضخمة أو أكوام تراب دُفنت تحتها سيارات أو ركام منزل أو ممتلكات من نوع آخر، وربما شهداء، كما قال بعض السكان الذين كانوا يبحثون عن أماكن منازلهم.

مواطنون ينقبون بين الأنقاض عن "شقاء العمر"، أو ينتشلون ما يلزمهم في حياة النزوح، أنابيب غاز طبخ وبطانيات وأدوات طهي وأوعية يمكن استخدامها في نقل الماء والطبخ، يحملونها على أكتافهم أو على كارات يجرها حمير يتجهون غربا إلى خيام النزوح.

شابان منهمكان في عملهما، كانا يزيحان قطع باطون بأيديهم، رفضا الحديث مع أي من المارة، قال جارهم محمد بربخ، إنهما يبحثان عن مصاغ زوجتيهما ومبالغ من المال تركوهما عندما هربا تحت القصف.

على كارة يجرها حمار، حمل صدام سمور (34 عاما)، من منطقة الزنة شرق خان يونس ما استطاع من متاع يلزمه، برميل بلاستيكي لحفظ الماء، وفرش غاز للطبخ، وبعض الفراش والأخشاب.

وقال سمور، وهو والد الثلاثة أطفال، لمراسلنا، إنه لن يعود للمدينة حاليا لأن البيت الذي كان يقطن فيه و23 فردا، وكل البيوت المجاورة تم "مسحها" عن الأرض، وتحولت إلى "أرضٍ خراب !".

"المنطقة الشرقية كلها مدمرة، لن نعود،" قال أبو سمور وهو يدفع الكارة من الخلف ليساعد الحمار في تخطي تلة طينية.

وفي أواخر أيام العدوان على المدينة، فجرت قوات الاحتلال عشرات المربعات السكنية في المنطقة "الشرقية" للمدينة التي تضم قرية خزاعة وعبسان والزنة وبني سهيلا.

في المقبرة المجاورة للحي النمساوي غرب المدينة، انشغل مواطنون في البحث عن قبور أحبة لهم استشهدوا خلال الغزو أو توفوا قديما، فالمقابر لم تسلم من جرافات الاحتلال أيضا.

محمد أبو مصطفى، عاد يبحث عن قبر أخيه أحمد فلم يجده، لأن قوات الاحتلال جرفت قبور الشهداء خلال اجتياحها مستشفى ناصر في المدينة أوائل فبراير الماضي.

"قتلوا أحمد قنصا وهو يحاول الحصول على الماء وجرفوا قبره، فتشنا عن القبر ولم نجده، و كثير من المواطنين يبحثون عن قبور أبنائهم وعن جثثهم." قال أبو مصطفى، الذي توجه لبيته وبيت عائلته في حي الأمل غرب المدينة، ثم عاد أدراجه "خائبا" لأن بيته لم يعد صالحا للاستخدام، فاضطر حمل ما استطاع من آنية وأشياء تلزمه في حياة النزوح قبل أن يغادر.

"البيت لا يصلح للاستخدام البشري ولا حتى الحيواني لذا سأعود للمكوث في خيمة النزوح في رفح" قال.

وكان أبو مصطفى، وإخوته، غادروا البيت المكون من 3 طوابق في حي الأمل غرب المدينة مع بداية هجوم الاحتلال البري على المدينة.

أينما تولي وجهك يقابلك دمار في المدينة، على جانبي الطريق الذي يربط بين المخيم وسوق الأربعاء، وتفرعاته "سوق الحبوب وسوق اللحم"، لم تعد تصلح المنشآت إلا للكلاب والقطط الضالة التي انتشرت بين الدمار، والطيور التي جاءت تلتقط رزقها. بات واضحا أن الدمار لم يكن نتيجة قذائف عشوائية، بل دمار مبرمج.

مربعات كاملة سويت بالأرض، ليس فقط المنازل، المحلات التجارية والأندية والمدارس والمؤسسات الحكومية والخاصة والجمعيات الخيرية ونسيج المدينة الإنشائي.

منطقة الكراج وشارع المحكمة وشارع جلال وشارع البحر، من المناطق التي كانت تعج بالحياة على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع، كان المواطنون يمشون فيها بصعوبة من شدة الزحام. الآن باتت تعج بالسكون والدمار، إلا من بعض المواطنين الذي جاؤوا يتفحصون ممتلكاتهم وحوانيتهم، يمشون فيها بصعوبة لكثرة الدمار.

المسجد الكبير الذي رُمم حديثا لم يعد له أثر، حتى ركامه دُفن تحت التراب، ومئذنته الشهيرة تقطعت وألقي بها قرب مئذنة المكان الأثري المتضرر الذي يعرف باسم "قلعة برقوق".

هناك حمل المواطن مهند الفرا كيسا على كتفه وقال إن محتوى الكيس هو بضع ملابس لأطفاله انتشلها من تحت ما تبقى من عمارة من 3 طوابق له، ولإخوته، وباتت أثرا بعد عين. "دمروا بيتنا ودمروا السوبرماركت وهي مصدر رزقنا وهذا الكيس هو كل ما تبقى".

وكشف الفرا أنه لن يستطيع العيش في المدينة لأنه لا يوجد أي من مقومات الحياة، فلا صرف صحيا ولا ماء ولا طرق ولا أسواق ولا بشر.

"أرجعوا المدينة 50 عاما إلى الوراء، لن نستطيع العيش هنا، فلا كهرباء ولا ماء ولا صرف صحيا" قال الفرا، مؤكدا أن الحياة في خيمة النزوح" أشرف بكثير من الحياة في المدينة".

وأضاف أن بيته آوى زهاء 20 شخصا من أولاده وأولاد إخوته وهربوا من البيت في الرابع من ديسمبر الماضي مع بداية الغزو البري للمدينة.

من وراء أحد أكوام الركام خرج مواطن وصرخ "سرقوها الكلاب"، سأله مراسل "وفا" ما هي ؟، فلم يجب. بعد ذلك تبين أنه فقد خزنة من محله التجاري المدمر.

في حي "جورة العقاد" أكوام من حاويات القذائف الفارغة، وأخرى مغلقة. قذائف مختلفة الألوان والأطوال. والشوارع، كغيرها مغلقة بفعل الركام ويصعب حتى المشي فيها على الأقدام. بيوت مدمرة بشكل كلي وجزئي وأخرى محترقة.

من أحد المباني التي لا تزال قائمة خرج شابان وامرأة يحملون بضع أغراض "ضرورية". صاحبة البيت، منى البطة، قالت إن جنود الاحتلال أعدموا زوجها محمد زكريا أحمد البطة (67 عاما) في التاسع من يناير، وقتلوا 4 من جيرانه الذين حاولوا إنقاذه.

"بقي زوجي في البيت لأنه اعتقد أن جنود الاحتلال لن يمسوا به لأنه كبير السن، لاسيما أن لا نشاط سايسيا سابق له، لم يعلم أنهم سيعدمونه".

وأكدت منى البطة أنها لن تعود للعيش في خان يونس لأنها باتت مدينة أشباح ولا تصلح للعيش لبني البشر. "لن أعود هنا ثانية، كيف سنعيش في أرض خراب بلا بشر؟ سيحيط بنا الموت والخوف، أخشى على بناتي أن يعشن وحدهن في غابة تحيط بها الحيوانات فقط."

وتساءلت البطة عن جدوى العودة لمدينة بدون كهرباء وماء وطعام ولا عمل، مؤكدة أنها ستعود الآن لخيمة النزوح.

على كومة من الرمل جلس أيمن كُلاب، بجانب لوح من الزينكو وبضع خشبات وقطع ملابس. بدا عليه التعب والإحباط وغطى الغبار وجهه، قال لمراسل "وفا" إنه وإخوته لديهم بيتان الأول دمره الاحتلال والثاني تضرر بشكل كبير ونهبه "اللصوص".

وأشار كُلاب للوح الزينكو بجانبه، وقال: "هذا ما تبقى لي من البيتين سأستخدمه في إنشاء مرحاض بجانب خيمة النزوح التي أعيش فيها مع أطفالي الثمانية"، مشيرا إلى أنه كان يأمل العودة والعيش في بيته لكنه فقد الأمل ولن يعود ثانية.

ويمتد بحر الدمار لمدارس "الأونروا" الابتدائية والإعدادية بين استاد خان يونس الرياضي وبلوك (جي) الذي دُمر تدميرا كبيرا، ومستشفى الأمل الذي يتبع جمعية الهلال الأحمر وشهد قنص الاحتلال مواطنين نازحين داخل المستشفى.

يمتد الخراب في مدينة خان يونس التي تمتد على مسحة (54.56 كم²)، وكان يقطنها قبل العدوان قرابة (250 ألف نسمة)، لمدارس الأونروا، فمدرسة الشهيد مصطفى حافظ، حُرقت، مدارس أخرى دمرت واقتحمها الجنود وخطوا فيها نجمة سداسية وشعارات بالعبرية، هذا بعد أن استهدفوها بالقذائف والصواريخ لإجبار النازحين، الذين اتخذوا منها مأوى، على مغادرتها.

وفا