يتدرب ياسر، في قبو منزله بمنطقة عمّان الشرقية، على خلط أمزجة كيميائية لصناعة مطهرات الأيدي بعيدا عن أعين الرقابة؛ تزامنا مع اشتداد حدة انتشار فيروس كورونا المستجد محليا مطلع العام الماضي.

وتمكّن ياسر خلال عمله في الخفاء من صناعة 500 كيلوغرام من مطهرات الأيدي، مؤكدا لفريق عمل البرنامج الاستقصائي "قيد التحقيق"، أن "العملية تتم بكل سلاسة، ويسر، وبناء على رغبات زبائنه".

ويقول: "القاسم المشترك بين الجميع هو المطالبة بتخفيف كميات المواد المضافة، والكحول؛ للحصول على ربح وفير، بعد ارتفاع أسعار المواد الكيميائية الأولية نتيجة زيادة الطلب على مطهرات الأيدي".

و"ارتفع الطلب على مادتي الإيثانول، وإيزوبروبانول، اللتين تدخلان في صناعة المعقمات الكحولية بكميات بلغت 15 ألف طن، مقارنة بالعام الذي سبقه، إذ لم يتجاوز الطلب 1000 طن"، بحسب دراسة أعدها عضو مجلس إدارة غرفة صناعة الأردن/ ممثل قطاع الصناعات الكيميائية ومستحضرات التجميل أحمد البس.

وتدخل المواد الكيميائية في صناعة مطهرات الأيدي المنتشرة في الأسواق المحلية بنسب مختلفة، حيث تنقسم بين المركبات الكحولية، ومركبات الأمونيا الرباعية، وأخرى تعتمد على الكلورين، واليود، ولكل منها استخدام مختلف، على ما قالته الدكتورة رندا حدادين من كلية الصيدلة في الجامعة الأردنية.

وتؤكد حدادين "منظمة الصحة العالمية أوصت مع بدء الجائحة باستخدام المياه والصابون لتعقيم اليدين بشكل رئيسي، وحال عدم توافرها يفضل استخدام المعقمات الكحولية، التي تشكل نسبة الكحول فيها 70% فما فوق".

وكشفت "المملكة" عن غش تجاري في بطاقات تعريفية مرفقة للمطهرات الكحولية المنتشرة في الأسواق، فقد وثق فريق عمل (قيد التحقيق) من خلال تحاليل مخبرية عدم فاعلية بعض المنتجات في قتل البكتيريا أو الفيروسات.

"مواد كيميائية دون رقابة"

من الأمور الصادمة، التي اكتشفها فريق عمل البرنامج، أن رحلة شراء المواد الأولية لصناعة مطهرات الأيدي تسير بكل سهولة أمام المشتري؛ ففي منطقة ماركا الشمالية، لوحظ قيام عدة محال تعمل في بيع المواد الكيميائية بطريقة مباشرة إلى الزبائن، ومحاولات عديدة بذلها عامل في هذه المحال لإقناع الفريق باستبدال خلطة صناعة المطهر المطلوبة بأخرى.

ويقول العامل: "لا تتوقف عملية صناعة المعقمات على مواد محددة، لدينا العديد من الوصفات التي ننصح بها زبائننا لغايات تصنيع مطهرات الأيدي في منازلهم، علما بأن المواد الأولية متاحة للجميع، ويستطيع أي شخص الحصول على الكميات التي يريدها، وبأسعار زهيدة".

عضو غرفة صناعة الأردن أحمد البس، يفسّر سبب عدم وجود رقابة حثيثة على بيع المواد الأولية للمطهرات بأنها "غير خطرة"، قائلا: "الأولى أن يتم توفير هذه المواد بطريقة مباشرة إلى الزبائن لاستخداماتها المتعددة داخل المنازل والمصانع".

بينما كانت تباع المواد الكيميائية بشكل علني وأمام أعين فرق الرقابة، كانت هناك إنذارات مبكرة أطلقتها جهات عالمية منتصف عام 2020؛ فقد نشرت جامعة أكسفورد بالتعاون مع عدد من المؤسسات الطبية تقريرا، تؤكد فيه "أن إجراءات حظر التجول، وتقييد الحركة التي اتخذتها الحكومة للحد من انتشار فيروس كورونا، أتاح المجال للاتجار في مواد طبية متدنية الجودة"، ويظهر التقرير ضبط ما يقارب 360 منتجا مغشوشا للتعقيم.

حدادين، أبدت تخوفها من فكرة انتشار مواد معقمة غير مطابقة للمواصفات، أو مجهولة المصدر في الأسواق المحلية، وتؤكد "تكمن الخطورة في عدم معرفة المكونات المضافة إلى هذه المعقمات، وظروف وآلية تصنيعها، بالإضافة إلى الشوائب الموجودة في داخلها، وما إذا كانت سامة أو لا".

"تكمن خطورة تصنيع مطهرات الأيدي دون إجراء أي فحوص مخبرية للمواد الأولية، أو تهيئة المكان بطريقة صحية ومعقمة، إلى إمكانية تلوث المنتج؛ مما يرفع نسب احتمالية الإصابة بأمراض جلدية معدية، أو حدوث حروق طفيفة، او الإصابة بالأكزيما لدى المستهلكين، كذلك يكمن التأثير على النواحي الاقتصادية والتنافسية بين الشركات"، بحسب ما قاله محمد جبر، مدير شركة متخصصة في الحلول البيئية.

"في العام ذاته، كانت أعداد المصانع المتخصصة في تصنيع المنظفات والمعقمات، تتزايد بشكل مطرد، حتى وصلت إلى ما يقرب من 40 إلى 50 مصنعا، فيما كانت خلال السنوات السابقة لا تزيد عن 6-7 مصانع تعمل على إنتاج المعقمات؛ وذلك نتيجة زيادة الطلب على استخدام المعقمات، كما يؤكد البس.

ميثانول سام في صناعة المطهرات!

واستطاع فريق "قيد التحقيق"، الحصول على أرقام تفيد بأن مؤسسة المواصفات والمقاييس أتلفت ما يقارب 5500 عبوة معقم خلال العام الماضي؛ لعدم مطابقة مكونات العبوة لبطاقة البيان المرفقة عليها، التي تُعد إلزامية لجميع الشركات المنتجة.

مساعدة المدير العام للشؤون الرقابية في مؤسسة المواصفات والمقاييس وفاء المومني، قالت "تمثل بطاقة البيان معلومات تعريفية واجب ذكرها حول المنتج، وهي قاعدة فنية ملزمة بالتطبيق لجميع المنتجات، وفي حال ضبط أي منتجات لا تحمل البطاقة؛ يتم اتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحق المخالف".

"الهدف من وضع بطاقة البيان على المنتج، أو ما يعرف بالبطاقة التعريفية، هو حماية المستهلك من جانب، وحتى يكون على دراية بمكونات المنتج، فربما يعاني المستهلك من مرض ما، أو لديه حساسية تجاه نوع محدد من المواد المضافة؛ فالبطاقة كفيلة بتوضيح هذه التفاصيل، علما بأنه بموجب القانون يجب أن تكون المواد المستخدمة في التصنيع مطابقة للمواصفات المكتوبة على البطاقة"، بحسب ما أكد المستشار القانوني المحامي سائد كراجة.

الأمر المفزع في التحقيق، تصريحات وفاء المومني، "مع بدء جائحة كورونا مطلع العام الماضي، تم سحب عينات عشوائية من أسواق محلية، وتبين بعد إجراء فحوص مخبرية لها أن مجموعة كبيرة من المعقمات لم تكن تحمل التركيز المناسب للقضاء على الفيروسات، إضافة إلى وجود أنواع أخرى تحتوي على مادة الميثانول، التي تعتبر مادة سامة يمنع استعمالها في صناعة المطهرات أو المعقمات".

"تستخدم مادة الميثانول لأغراض علمية، وتدخل في بعض الصناعات المحدودة، لكن التعرض لها بطريقة مباشرة قد يؤدي إلى أضرار جسيمة، واستخدامها على المدى البعيد قد يؤدي إلى فقدان البصر والعمى"، بحسب ما قالته الدكتورة تمام العليمات من كلية الصيدلة- جامعة العلوم والتكنولوجيا.

وتضيف "البعض أساء استخدام مادة الميثانول كبديل عن الإيثانول؛ بحكم افتراضه بأنها مادة كيميائية كحولية شبيهة لها بنفس التأثير، وربما مع ارتفاع الطلب على مادة الإيثانول في بداية الجائحة أصيب السوق بنقص حاد في هذه المواد، فكان الخيار الآخر استخدام مواد مختلفة دون معرفة آثارها السلبية التي قد تلحق بالمواطنين بعد الاستخدام".

معقمات تخلو من الكحول!

وأجرى (فريق المملكة)، تجربة مختلفة، للتأكد من فاعلية منتجات المطهرات المنتشرة في الأسواق المحلية ومطابقتها للمواصفات، حيث أجريت فحوصات مخبرية على عينات عشوائية من المطهرات لقياس نسب الكحول فيها، في مناطق الكرك، الأغوار، السلط، وإربد.

الفحوصات أجريت على 20 عينة، ولضمان الشفافية، جرى نزع بطاقات البيان الملصقة على العبوات التي تظهر أسماء الشركات، قبل تسليمها إلى مختبرين منفصلين حاصلين على اعتمادية إجراء الفحوصات المخبرية من المؤسسة العامة للغذاء والدواء.

"يتم معرفة نسب الكحول داخل العينات من خلال تفعيلها مع مواد كيميائية محددة، ثم يتم حقنها داخل أنبوب صغير وتوضع داخل الجهاز المخصص للفحص، ليتم عرض النتائج بشكلها النهائي عبر شاشة الحاسب الآلي، وعلى شكل موجات توضح نسب الكحول في كل عينة"، بحسب ما أوضح فني المختبر حازم المصري.

وأظهرت التحاليل المخبرية رسوب أكثر من نصف العينات، وعدم مطابقتها لما جاء في بطاقات البيان المرفقة، حيث توزعت النتائج كما يلي: (7 عينات تراوحت نسب الكحول فيها من صفر إلى 1.5%، 8 عينات ترواحت نسب الكحول فيها من 5 إلى 64%، و5 عينات تراوحت نسب الكحول فيها من 70 إلى 76%).

"لم تكن النتائج التي حصلنا عليها متوقعة"، كما تؤكد تمام العليمات، وتقول "هذا يشير إلى أن نسب العينات التي كانت مطابقة للمواصفة يشكل 25% فقط، وبما أنكم قمتم بالحصول على عينات من مختلف مناطق الأردن، فهذا يدلل على أن 75% من العينات الموجودة في الأسواق غير مطابقة لبطاقات البيان، وللأسف أنها تلقى إقبالا ورواجا بين الناس".

ويعلق عضو غرفة صناعة الأردن أحمد البس على نتائج المختبر، قائلا "الشروط المرجعية العالمية واضحة تماما، يجب أن لا تقل نسبة وجود مادة الإيثانول في المعقمات الكحولية عن 70%، أو إيزوبروبانول الكحول عن 50%، هذه تعتبر الحدود الدنيا التي سارت عليها دول أوروبا خلال جائحة كورونا، وهذا يضمن أن المادة المطهرة ستحقق الهدف المرجو منها؛ وهو التعقيم وقتل الفيروسات أو البكتيريا".

ويرى مستشار الطب العام والجراحة العامة الدكتور نضال بركات، أن "وجود مطهرات مغشوشة في الأسواق الأردنية سيزيد من فرص انتقال العدوى والأمراض، وبالأخص خلال جائحة كورونا، فقد يلجأ المواطنون إلى استخدام المطهرات بشكل أساسي كبديل عن الماء والصابون؛ ظنا منهم أنهم حصلوا على الوقاية الكافية، لكن على أرض الواقع هم لم يحصلوا على أي تعقيم يقيهم من الإصابة".

"تحدد نسب تراكيز الكحول في المعقمات الكحولية بناء على توصيات عالمية، ودراسات معدة في السابق، لتحقيق الفاعلية في قتل الفيروسات، والميكروبات؛ فوضع نسب بسيطة لا تتناسب مع طبيعة عمل المعقم لن تحقق الغاية المرجوة، ووجود معقمات مخالف في الأسواق لنسب التراكيز يعد أمراً غير مقبول، وستتم محاسبة المقصرين"، كما أكدت وفاء المومني.

غش تجاري وقصور رقابي

"ما يقوم به بعض أصحاب المصانع، والمعامل، أو العاملين في منزلهم ‘ تحت الدرج؛ بشكل غير قانوني، من عدم مطابقة المنتج لما تحتويه بطاقة البيان، والتلاعب بالمواصفات يدخل في بوابة الغش التجاري؛ لأن ذلك يعتبر عملاً متعمدا سيلحق الضرر بالمستهلك الأخير، وقد يؤدي إلى حدوث أمراض مختلفة"، كما يؤكد كراجة.

ويقول كراجة "يقصد بجريمة الغش كما جاء في المادة 433 من قانون العقوبات على أنه خداع يقوم به أحد الطرفين (البائع)، للمتعاقد الآخر (المشتري) في البضاعة المتعاقد عليها، من حيث طبيعتها، صفاتها الجوهرية، الكمية، أو في نوعها، أو مصدرها، بحيث يخفى على المشتري حقيقة البضاعة، وهنا يعاقب الطرف المتسبب بالضرر بالحبس من شهر إلى سنة، وبالغرامة من 5 دنانير إلى 50 دينارا".

وتصنف العقوبات الواردة في قانون المواصفات والمقاييس على أنها أكثر شدة من قانون العقوبات كما ورد في النصوص القانونية، إذ تؤكد الفقرة "أ" من المادة 34، على أنه "يعاقب بغرامة لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد عن عشرة آلاف دينار، أو بالحبس مدة لا تقل عن أربعة أشهر، ولا تزيد عن ستة أشهر لكل من تلاعب بأوزان المنتجات، أو المواد، أو أحجامها، كذلك من يعمل على طرح أو عرض أو خزن أو وزع، منتجات غير مطابقة للقواعد الفنية، أو غير آمنة للاستخدام في الأسواق، أو المحال التجارية، أو أي مكان آخر"، كما يؤكد كراجة.

جهات رسمية عدة تتولى مهام الرقابة على هذا القطاع، حيث تعتبر مديرية الأجهزة الطبية والمستلزمات في المؤسسة العامة للغذاء والدواء، صاحبة الولاية بالسماح باستيراد وتداول المستلزمات الطبية بما فيها المعقمات والمطهرات، كما يظهر الموقع الإلكتروني للمؤسسة، فيما تتشارك مؤسسات أخرى في العمليات الرقابية على الأسواق، وأثناء العمل على التحقيق حاول فريق العمل الحصول على رد رسمي من مدير المؤسسة نزار مهيدات أو من ينوب عنه، لكن دون جدوى.

ويمتلك مفتشو مؤسسة المواصفات والمقاييس صفة الضابطة العدلية؛ فعند ورود شكاوى عن وجود منتجات غير مطابقة للمواصفات في الأسواق، أو تولّد شكوك لديهم أثناء جولاتهم التفتيشية حول بعض المنتجات، يمكنهم حجزها بشكل مباشر، وإجراء فحوصات فنية ومخبرية عليها، للتحقق من صلاحيتها وتتبع مصدرها، كما تؤكد المومني.

"وتعتبر عملية الرقابة على الأسواق وضبطها مسؤولية مشتركة"، كما يقول البس، موضحا أنه "يتم تكليف لجان مختلفة تجمع مفتشين من وزارة الصناعة والتجارة، المؤسسة العامة للغذاء والدواء، مؤسسة المواصفات والمقاييس، وغرفة صناعة الأردن أيضا، التي ترسل كوادرها حال ورود شكوى رسمية إليها، لكن رغم ذلك من الاستحالة أن يتم فحص جميع المنتجات ومتابعتها قبل نزولها إلى الأسواق".

وتؤكد حدادين أن "من الصعوبة ضبط جميع مطهرات الأيدي المزورة المنتشرة في الأسواق المحلية"، لكنها تشير إلى "ضرورة رفد الجهات الرقابية بكوادر متخصصة، وأجهزة مناسبة للكشف عن عمليات الغش في الأسواق".

وهنا، تبرز حاجة ملحة إلى تشديد عمليات الرقابة على المعقمات الكحولية، وأن يصار إلى فحص نسب الكحول فيها قبل إرسالها إلى الأسواق، وبغير ذلك، سترتفع فرص انتقال العدوى بفيروس كورونا بين الأردنيين خلال الأيام المقبلة؛ بسبب معقمات تخلو من الكحول والفاعلية.

المملكة