أعلن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، الخميس، من قصر بعبدا الرئاسي اعتذاره عن عدم تشكيل حكومة جديدة في لبنان، بعد تسعة أشهر من تسميته، في خطوة من شأنها أن تعمّق معاناة البلاد الغارقة في أسوأ أزماتها الاقتصادية.

والحريري هو الشخصية الثانية التي كلفها عون تشكيل حكومة بعد استقالة حكومة حسان دياب إثر انفجار مرفأ بيروت المروّع في الرابع من آب/أغسطس 2020، والذي أدى الى مقتل أكثر من مئتي شخص، وإصابة أكثر من 6500 بجروح، محدثاً دماراً واسعاً.

وقال الحريري إثر لقائه رئيس الجمهورية ميشال عون لصحفيين الخميس، إن الأخير طلب "تعديلات" على الصيغة الحكومية التي اقترحها عليه الأربعاء، اعتبرها الحريري "جوهرية".

وأوضح أنه اقترح على عون مزيداً من الوقت للتفكير، لكن الأخير أجابه "لن نتمكن من أن نتوافق". وأضاف الحريري "لذلك، قدمت اعتذاري عن (عدم) تشكيل الحكومة ... والله يعين البلد".

وفي وقت لاحق، ردّ عون في بيان عبر مكتبه الإعلامي على تصريح الحريري، معتبراً أن الأخير "لم يكن مستعداً للبحث في أي تعديل من أي نوع كان، مقترحاً على الرئيس عون أن يأخذ يوماً إضافياً واحداً للقبول بالتشكيلة المقترحة".

وأضاف البيان "عليه، سأله الرئيس عون ما الفائدة من يوم إضافي إذا كان باب البحث مقفلاً، وعند هذا الحد انتهى اللقاء وغادر الرئيس الحريري معلناً اعتذاره".

وسيحدد رئيس الجمهورية موعداً للاستشارات النيابية الملزمة بأقرب وقت ممكن بعد اعتذار الحريري وفق البيان.

واستمر لقاء الحريري مع عون 20 دقيقة فقط، وفق مراسلة "المملكة"، التي قالت إن الملف الحكومي يعود إلى نقطة الصفر بعد 9 أشهر من تكليف الحريري.

وقدم الحريري أكثر من تشكيلة لرئيس الجمهورية وراعت التشكيلة الأخيرة العديد من مطالب الرئيس وعدد الحقائب، وفق المراسلة التي أشارت إلى عدم إمكانية تشكيل حكومة من الحريري ضمن هذه الظروف، رغم الدعم العربي والأخير من مصر.

وفيما يواجه لبنان انهيارًا اقتصاديًا رجّح البنك الدولي أن يكون من بين ثلاث أشدّ أزمات في العالم منذ عام 1850، لم تتمكن القوى السياسية المتناحرة من تشكيل حكومة منذ 11 شهراً.

وأمضى الحريري وعون الأشهر الماضية يتبادلان الاتهامات بالتعطيل جراء الخلاف على الحصص وتسمية الوزراء. ويتهم الحريري عون وفريقه السياسي بالتمسك بالحصول على أكثرية تضمن له حق النقض في القرارات الحكومية، بينما يقول فريق عون إنه يريد فقط أن تعكس الحكومة حجم القوى السياسية الحقيقية. ورفض عون تسمية الحريري لوزراء مسيحيين.

والحريري هو ثاني شخصية تعتذر عن عدم تشكيل حكومة، بعد اعتذار مماثل قدّمه السفير مصطفى أديب الذي كلفه عون تأليف الحكومة نهاية آب/أغسطس؛ إثر استقالة حكومة تصريف الأعمال الحالية، بعد أيام من انفجار المرفأ.

ولم تنجح الضغوط الدولية التي مارستها فرنسا خصوصاً منذ الانفجار على الطبقة السياسية في تسريع عملية التأليف، رغم أن المجتمع الدولي اشترط تشكيل حكومة من اختصاصيين تقبل على إصلاحات جذرية مقابل تقديم الدعم المالي.

في مواجهة انسداد الأفق السياسي، يتحرّك المجتمع الدولي للضغط على الطبقة السياسية. وأعلن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي خلال اجتماع الاثنين توجّها لفرض عقوبات على قادة مسؤولين عن التعطيل قبل نهاية الشهر الحالي.

مهمة صعبة

من شأن اعتذار الحريري، الذي يعدّ الزعيم السني الأبرز في البلاد أن يفاقم من حالة الشلل السياسي في البلاد على وقع الانهيار المتسارع.

وفي لبنان، حيث النظام السياسي يقوم على توزيع المناصب الرئيسية على الطوائف، يعود منصب رئيس الوزراء للطائفة السنية.

ويتعين على عون أن يحدد في الأيام المقبلة موعداً جديداً لاستشارات نيابية ملزمة من أجل تكليف شخصية جديدة تأليف الحكومة، في مهمة لن تكون سهلة على الإطلاق ومن شأنها أن تزيد الانقسام بين القوى السياسية المتناحرة أساساً. وقالت الرئاسة الخميس، إن عون سيحدد موعد الاستشارات في "أسرع وقت ممكن".

وأشارت المراسلة إلى رفض رؤساء الوزراء السابقين فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام وغيرهم الترشح لتأليف الحكومة، وقالت إنهم "يتحدون مع الحريري في المواقف، وإن التعطيل يأتي من الفريق العوني ومن خلفة الحليف الأساسي حزب الله".

وفور اعتذار الحريري، تجاوز سعر صرف الليرة عتبة عشرين ألفا مقابل الدولار، في معدل قياسي جديد، وفق ما قال صرافون لوكالة فرانس برس. وأفادت الوكالة الوطنية للإعلام عن قطع طرق في مناطق عدة احتجاجاً.

مراسلة "المملكة"، قالت إن الشارع عاد ليلتهب من جديد إذ عادت حركة قطع الطرقات إلى الواجهة وذلك بعد فشل كل الرئيسين الحريري وعون في الوصول إلى اتفاق ينهي الأشهر التسعة من المماطلة الحكومية.

وعلى وقع اعتذار الحريري عن تشكيل الحكومية ارتفع سعر صرف الدولار ليصل إلى نحو 22 ألف ليرة لبنانية، وذكرت المراسلة أن هذ الارتفاع "تاريخي".

"مع مرور الوقت يتم قطع مزيد من الطرقات وبذلك تحولت شوارع بيروت أشبه بثكنات عسكرية حيث نزل الجيش وقوى الأمن في محاولة لضبط الوضع"، وفق المراسلة التي أوضحت أن غضب الشارع ينقسم لقسمين، الأول انتفض احتجاجا على اعتذار الحريري عن عدم تشكيل الحكومة، أما القسم الآخر فيتظاهر بسبب الأوضاع المعيشية وارتفاع قيمة الدولار مقابل الليرة.

ومن شأن الفراغ السياسي أن يعمّق معاناة اللبنانيين، الذين يعيش أكثر من نصفهم تحت خط الفقر، على وقع الانهيار الاقتصادي المتسارع الذي أدى إلى فقدان الليرة أكثر من 90% من قيمتها مقابل الدولار. وتشهد البلاد منذ أسابيع أزمة وقود وشحاً في الدواء وساعات تقنين في الكهرباء تصل إلى 22 ساعة. وترفع القطاعات والمرافق العامة والخاصة تدريجياً صوتها مطالبة بدعمها لتقوى على تقديم الخدمات.

ومنذ انفجار المرفأ الذي فاقم الانهيار الاقتصادي، يقدم المجتمع الدولي مساعدات إنسانية مباشرة إلى اللبنانيين عبر منظمات المجتمع المدني ومن دون المرور بمؤسسات الدولة. وتعتزم فرنسا والأمم المتحدة تنظيم مؤتمر دعم إنساني في الرابع من الشهر المقبل، هو الثالث منذ الانفجار.

وتبدو الأزمة الراهنة مرشحة للتفاقم مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لانفجار المرفأ. وينفذ أهالي الضحايا منذ أيام تحرّكات شعبية غاضبة مطالبين البرلمان برفع الحصانة عن ثلاثة نواب، شغلوا مناصب وزارية سابقاً، والجهات المعنية بمنح الإذن لملاحقة قادة أمنيين، طلب المحقق العدلي استجوابهم في قضية المرفأ.

ولم يصل القضاء بعد إلى أي نتيجة حول من يتحمّل مسؤولية حدوث الكارثة، علما أن المؤشرات واضحة إلى أن الإهمال والفساد لعبا دوراً كبيرا في انفجار مواد خطرة مخزنة عشوائياً.

أ ف ب + المملكة