في حقل ماراكايبو النفطي السابق في غرب فنزويلا، تتناثر على الأرض بقايا أنابيب ومعادن صدئة، في مشهد يعكس واقع الصناعة النفطية في فنزويلا التي كانت في أوجها في يوم مضى وباتت اليوم في أسوأ حال.

وعلى الرغم من أن الإنتاج في شرق البلاد في حال أفضل، فإن الإهمال الذي تعاني منه المنشآت في ولاية زوليا حيث نشأت الصناعة البترولية الفنزويلية قبل أكثر من قرن، ترمز إلى تراجع هذا العملاق النفطي السابق.

في 2008، كانت فنزويلا تنتج 3.2 مليون برميل يوميا، وكانت تعتبر من أكبر اقتصادات دول أميركا اللاتينية. بعد 13 سنة، لم تعد تنتج إلا 500 ألف إلى مليون برميل، بينما تجتاز البلاد أزمة غير مسبوقة تراجع خلالها الناتج الداخلي الصافي للفرد إلى أقل مما هو في هايتي.

وكان حقل ماراكايبو بمثابة مدينة عائمة تلمع أضواؤها خلال الليل، ويمكن رؤيتها على بعد كيلومترات من كل الجهات. اليوم، تحولت إلى صحراء رطبة تفوح منها رائحة مواد نفطية تتسرب من آبار هنا وهناك.

وتعرضت المنشآت للنهب، ولم يعد فيها أي شيء له قيمة، بما في ذلك الصنابير والصمامات التي كانت تتحكم بمخارج النفط الخام والغاز.

ويقول صياد رفض الكشف عن هويته، إن أحدا لم يعد يجرؤ على المخاطرة بالمجيء إلى المكان "خوفا من انفجار بسبب الغاز" المتسرب.

في 11 كانون الثاني/يناير، وقع انفجار في أنبوب في الطرف الآخر من البلاد في منطقة نفطية في شمال شرق فنزويلا تسبب بإصابة ثلاثة أشخاص بجروح. وتتحدث النقابات والمعارضة باستمرار عن حوادث، لكن السلطة تتحدث بالأحرى عن "عمليات تخريب" و"أعمال إجرامية" تشكل "جزءا من الحرب الدائمة التي تقودها مجموعات من أقصى اليمين، مدعومة من الإمبريالية في الولايات المتحدة" على حد تعبيرها.

في السبعينيات، كان يطلق على البلد اسم "فنزويلا السعودية" وكانت مجمل الشركات النفطية في تلك الحقبة مؤممة.

تحكم سياسي

وكانت شركة "بتروليوس دي فنزويلا" (نفط فنزويلا) العامة العملاقة تملك الحق الحصري في إنتاج النفط، واستمر ذلك حتى "الانفتاح النفطي" في التسعينيات. لكن تحرير الإنتاج النفطي هذا ألغي جزئيا في وقت لاحق مع وصول هوغو تشافيز الى السلطة. فرض تشافيز (1999-2013) على كل الشركات النفطية الانضمام إلى بتروليوس التي أصبحت تملك أغلبية الأسهم في كل الشركات.

ويواجه القطاع النفطي صعوبات في استعادة مستوياته الماضية، وقد يعود ذلك إلى الفساد أو الخيارات الاستراتيجية الخاطئة، أو مشاكل الصيانة، أو تقادم الآلات الصناعية.

ولم ترد شركة بتروليوم دي فنزويلا على أسئلة فرانس برس بشأن الموضوع.

بالنسبة إلى معظم الخبراء، تشكل المواجهة التي جرت في مطلع الألفين (1999-2013) بين تشافيز ومسؤولي شركة بتروليوم دي فنزويلا، مرحلة أساسية في بدء تراجع القطاع. وبلغت الأزمة أوجها مع إضراب تاريخي استمر من كانون الأول/ديسمبر 2002 إلى آذار/مارس 2003، وتلته سيطرة كاملة من النظام السياسي على الشركة.

وطرد الرئيس الراحل عددا كبيرا من الكوادر وآلاف الموظفين، ووظف أشخاصا "أوفياء للثورة" لم تكن لديهم بالضرورة كفاءات للعمل في هذا المجال.

وتحولت الشركة بالتالي إلى "البقرة الحلوب للدولة" ومركز لتوظيف "الأوفياء" الذين يخدمون النظام، من دون أخذ في الاعتبار حاجات الاستثمار أو الشركة، وفق ما يقول أحد المحللين.

وفضّل معظم الأشخاص الذين استجوبتهم وكالة فرانس برس حول هذا الموضوع الحساس في فنزويلا عدم الكشف عن هوياتهم.

"عائلات مدمرة"

كان كارلوس (اسم مستعار) في الثامنة عشرة من عمره عندما بدأ يعمل في شركة بتروليوم دي فنزويلا في سنوات الألفين. كان الإنتاج تراجع في حينه إلى مستوى تاريخي بلغ 25 ألف برميل في اليوم، قبل أن يعود إلى الارتفاع ويشهد ازدهارا. ويقول، إن الشركة تحولت بعد ذلك "إلى حزب سياسي" في ظل إدارة سيئة وتأميم للشركات المتعاملة معها.

في 2009، أصبحت سبعون شركة مكلفة بالصيانة ونقل الموظفين وغيرها في ولاية زوليا، ملكا لشركة بتروليوم دي فنزويلا.

ويوضح كارلوس أن هذا أدى إلى "نقص في الصيانة وغياب المحفزات لدى الموظفين".

ويشير إلى أنه طلّق زوجته في تلك الفترة بعد تقلّص مدخوله. "نساء كثيرات تركن أزواجهن؛ لأنهم لم يعودوا يعملون لدى بتروليوم دي فنزويلا، وتدمرت عائلات".

في تلك الفترة، شُلّت 34 ألف من آبار النفط العاملة في البلاد.

في 2013، تضخمت الأزمة. فبسبب عدم تقاضيهم أتعابهم، توقف عدد من المتعاملين مع الشركة عن العمل. توقفت الخدمات، فلم يعد هناك مثلا طعام يقدم إلى العمال في المنشآت النفطية.

وتروي ماريا (اسم مستعار) أن بعض العمال في قسم استخراج النفط راحوا يمضون يومهم في "الصيد لكي يحصلوا على الغذاء".

كانت ماريا تعمل في الشركة. في 2016، أدركت أن الضرر كبير في مرفأ ماراكايبو، عاصمة الغرب النفطية التي كانت تضج بالنشاط من قبل والتي باتت تضم مقبرة للحافلات المدمرة والسفن الغارقة. وكان العمال يسجلون حضورهم إلى مكان عملهم من دون أن ينجزوا شيئا.

وتقول ماريا "آلمني ذلك كثيرا".

وتضيف "توظيف الأشخاص بناء على انتمائهم السياسي أثّر كثيرا على الإنتاج (...)، وتم إبعاد أشخاص لديهم خبرة ومؤهلات".

وتتابع أن كل هذا خلق "وكر فساد" مع تجاوزات على أعلى مستوى - وتمّ في ما بعد الحكم على بعض المسؤولين بالسجن - وصولا إلى سرقة المعدات.

في 2017، أطلق النظام عملية واسعة ضد الفساد داخل شركة بتروليوم دي فنزويلا استهدفت مسؤولين في الشركة العامة وبينهم نائب رئيسها رافاييل راميريز الذي اتهمه المدعي العام طارق وليام صعب بأنه أحد المسؤولين الرئيسيين "عن الإفلاس الناتج عن الفساد" في الشركة النفطية.

ويؤكد راميريز الذي يعيش في إيطاليا في المنفى اليوم، بأن هذه الاتهامات سياسية.

ويتحدث شهود عديدون عن استخدام المركبات التابعة للشركة لأغراض شخصية، وشراء سلع خاصة من أموال الشركة، وسرقة أجهزة حاسوب وتلفزيونات من الشركة.

"بين يدي الله"

ويشير أستاذ الاقتصاد النفطي في جامعة فنزويلا المركزية كارلوس مندوزا بوتيلا إلى أن هذه الممارسات كانت تحصل من قبل في الثمانينيات التي كانت تشكل العصر الذهبي.

في مواجهة التقهقر، ترك عدد كبير من الموظفين وظائفهم ليجدوا عملا آخر، ويصبحوا سائقي سيارات أجرة أو موظفين في محال تجارية.

وواظبت ماريا على المجيء إلى العمل مرتين في الأسبوع مقابل راتب يبلغ ستين بوليفار شهريا (أقل من 15 دولارا).

وتقول إنه، إلى جانب الرواتب الجيدة، كان لدى الموظفين من قبل تأمين صحي ومساعدات مدرسية "اليوم، نحن بين يدي الله".

وتضيف "اليوم، لا يمكن لأي عامل أن يعيش من راتبه في شركة بتروليوم دي فنزويلا"، مشيرة إلى أن الوحيدين الذين يتقاضون رواتب جيدة هم "موظفون في شركات مختلطة"، أي في شراكات مع الصين أو روسيا، دول صديقة سياسيا لفنزويلا.

وطال النزف كل المستويات: من اليد العاملة غير المؤهلة إلى المهندسين أو الجيولوجيين الذين غادروا إلى الخارج لتحصيل لقمة عيشهم.

ويشكل انقطاع الكهرباء المتكرر منذ 15 عاما في ولاية زوليا وعاصمتها ماراكايبو، مشكلة أساسية. وأصبح هذا الانقطاع عاديا إلى درجة بدأ دوام العمل يتوقف عند الظهر.

وبالتالي، تجد فنزويلا نفسها في وضع مليء بالتناقضات: فعلى الرغم من احتياطات عالمية غزيرة، هناك نقص في البنزين، واضطرت كراكاس إلى استيراد وقود إيراني أكثر من مرة.

عقوبات

وتؤثر أزمة الوقود بدورها سلبا على الإنتاج، لأنها تعقد كل السلسلة اللوجستية.

وعلى الرغم من أن تسلسل الأحداث لا يتطابق مع رواية الحكومة للأزمة، يتهم النظام الفنزويلي العقوبات الأميركية التي يعود أولها إلى العام 2014 التي أضاف إليها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عقوبات جديدة في 2017، بأنها المسؤولة عن الوضع الكارثي للإنتاج النفطي.

ولطالما كان موقف واشنطن معارضا للقادة الاشتراكيين في فنزويلا. وكانت علاقاتها متوترة مع تشافيز، وتسعى اليوم إلى الإطاحة بنيكولاس مادورو من السلطة. وكانت المعارضة قاطعت الانتخابات التي أدت إلى إعادة انتخابه في 2018. كما قاطعت الانتخابات التشريعية في 2020، معتبرة أنها "مزورة". ولا تعترف قرابة خمسين دولة بمادورو رئيسا شرعيا لفنزويلا.

وتستهدف الولايات المتحدة التي كانت أبرز زبون للنفط الفنزويلي الخام، القطاع النفطي الفنزويلي بشكل خاص، وتمنعه من استيراد قطع غيار لمنشآته.

وتعقّد العقوبات مهمة الموظفين الذين يحاولون إعادة الصناعة إلى السكة.

تسرب

ويتذكر روي، وهو صياد سمك في الثلاثين، بداياته مع والده وكيف كان معجبا بـ"لا كاسونا" (البيت الكبير) الذي كان عبارة عن منصة لوجستية لـ13 بئرا نفطيا في المنطقة.

اليوم، يتسرب النفط من هذه الآبار، فيلوث بحيرة ماراكايبو (13 ألف كلم مربع).

ويقول روي، إن "بقع الخام تعرقل العمل" مشيرا إلى أن شباكه غالبا ما تعلق في مياه لزجة بسبب تسرب النفط إليها. ويقول إنه خسر أكثر من 100 كلغ من السلطعون بسبب تلوثها بالبترول.

في تشرين الأول/أكتوبر 2021، بثت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) صورا عبر الأقمار الصناعية للبحيرة تظهر فيها طحالب متداخلة وبقع نفط.

ويقول الخبير مندوزرا بوتيلا "في قعر البحيرة، هناك أنابيب وقساطل متداخلة تشبه طبق سباغيتي يخرج منه النفط الذي يقتل التنوع الحيوي".

وغالبا ما تتحدث تقارير عن تسربات نفطية لا تبلّغ عنها شركة بتروليوم دي فنزويلا، في كل المواقع التي يُنتج ويستخرج فيها النفط في البلاد.

قرب ماتورين، عاصمة ولاية موناغاس (شمال شرق)، التسرب كثيف، ويأتي من إمدادات ضخمة تعبر تحت مزارع ومنازل. في قرية لوس بوزوس دي غانيبا الصغيرة، الأنابيب متصدعة.

ويشكو المزارع إليازار الذي يزرع الموز والبابايا من "تسرّب متواصل يسمّم كلّ شيء".

رغم ذلك، أشاد الرئيس الفنزويلي في بداية كانون الثاني/يناير بانتعاش في الإنتاج، وصل إلى مليون برميل يوميا، وحدّد هدفا في 2022 بالوصول إلى مليونين.

وقال رجل أعمال لديه خبرة عقود في قطاع البترول لوكالة فرانس برس، إن الأنشطة النفطية استؤنفت بعض الشيء في 2021، وإن شركة بتروليوم دي فنزويلا عادت لتدفع للمتعاملين.

أ ف ب