نقلت مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة رسالة فلسطين لنحو ثلاثة عقود، قبل أن تبعث بسطورها الأخيرة لقناة الجزيرة في الدوحة صباح الأربعاء، وتخبرهم أن جيش الاحتلال الإسرائيلي اقتحم مدينة جنين ويحاصر منزلا فيها، وأنها ستوافيهم بالخبر فور اتضاح الصورة.. وكانت هي الخبر.

"في الطريق إلى جنين" هذا آخر ما خطته أبو عاقلة على صفحتها عبر فيسبوك قبل أيام، وهي بطريقها لمدينة جنين شمال الضفة الغربية المحتلة لتغطية اقتحامات الاحتلال المستمرة منذ أشهر عدة، وللمفارقة؛ فإن استشهادها كان أيضا في جنين صباح الأربعاء برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي.

وفي الطريق أيضا، التقطت الصحفية شيرين بعدستها مشهداً آخر قطرات المطر على فلسطين، وكأنها تعرف أنه سيكون شتاءها الأخير، أو كأنها أدركت أن هذا الطريق لن تعود منه مجددا.

وكعادتها، همَّت مبكرة صباح الأربعاء إلى الميدان، وارتدت زيها الصحفي الذي يميز هويتها الصحفية لتفادي أي مخاطر، وانطلقت إلى منطقة الجابريات بين مخيم جنين وقرية برقين غربي مدينة جنين؛ لنقل اقتحام جنود الاحتلال المدججين بالسلاح للمنطقة؛ بهدف اعتقال أحد الفلسطينيين الذي حاصرت منزله، وأخذت تنادي عليه عبر مكبرات الصوت.

لم يطل الأمر كثيرا، وكأن الاحتلال أدرك سلفا أن مهمته فشلت، فأخذ يطلق الرصاص بشكل عشوائي، فأصيبت شيرين برصاصة قناص إسرائيلي في الرأس أوقعتها أرضا، وقبلها بلحظات أصيب الصحفي علي السمودي، الذي يعمل منتجا لقناة الجزيرة في جنين، برصاصة في الكتف.

وحاول الزملاء ومن كان حاضرا من الفلسطينيين بذل أقصى إمكانياته لإنقاذها ونقلها إلى مشفى ابن سينا التخصصي في المدينة، لكن أعلن استشهادها بعد فشل محاولات إنعاشها. وعم الحزن والسخط فلسطين بأكملها والوسط الصحفي خاصة.

جنود الاحتلال، أطلقوا الرصاص على الزميلة أبو عاقلة (51 عاما)، رغم أنها كانت ترتدي سترة الصحافة التي تميز الصحفيين عن غيرهم أثناء التغطيات، وفق مراسلة "المملكة".

وقال شاهد عيان، إن "قوات الاحتلال الإسرائيلي عرقلت إسعاف أبو عاقلة بمواصلة إطلاق النار باتجاهنا".

وقال الزميل المصاب سمودي، إنه كان موجودا برفقة الزميلة أبو عاقلة ومجموعة من الصحفيين في محيط مدارس وكالة "أونروا" قرب مخيم جنين، وكان الجميع يرتدون الخوذ والزي الخاص بالصحفيين.

وأضاف أن قوات الاحتلال استهدفت الصحفيين بشكل مباشر؛ ما أدى إلى إصابته برصاصة في ظهرة، واستشهاد زميلته أبو عاقلة بعد إصابتها برصاصة في الرأس.

وأكد السمودي أن المكان الذي كان يوجد فيه الصحفيون واضح لدى جنود الاحتلال، وأنه لم يكن هناك أي مسلح أو مواجهات في تلك المنطقة، وأن استهدافهم جرى بشكل متعمد.

أيقونة الصحافة

وُلدت شيرين نصري أبو عاقلة عام 1971، وترعرعت في مدينة القدس لأسرة مسيحية تنحدر من مدينة بيت لحم جنوب الضفة الغربية المحتلة، وأنهت دراستها الثانوية في مدرسة راهبات الوردية في بيت حنينا في المدينة المقدسة.

والتحقت شيرين بداية بدراسة الهندسة المعمارية في جامعة العلوم والتكنولوجيا في الأردن، لتنتقل بعدها إلى تخصص الصحافة في جامعة اليرموك الأردنية أيضا، حيث تخرجت بلقبها الأول.

وعادت شيرين أبو عاقلة بعد تخرجها إلى فلسطين وعملت في مهام إعلامية مع عدة جهات، مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وإذاعة صوت فلسطين، وقناة عمان الفضائية، ثم مؤسسة مفتاح، وإذاعة مونت كارلو.

في عام 1997 انضمت شيرين إلى طاقم قناة الجزيرة الفضائية في بداية تأسيسه بفلسطين، وظلت فيه حتى قضت شهيدة للرسالة الإعلامية المناصرة لوطنها وقضيتها، وهو ما جعل كثيرا من الصحفيين يدينون "لأستاذتهم" بالتعلم منها والاستفادة من خبرتها.

في مقابلة معها أجرتها وكالة أنباء "النجاح" المحلية في نابلس، قالت أبو عاقلة "بالطبع أكون خائفة في كثير من الأحيان أثناء إعداد التقارير"، مضيفة "أنا لا أرمي بنفسي الى الموت، أنا أبحث عن مكان آمن أقف فيه وأعمل على حماية طاقمنا الصحافي قبل ان أقلق على اللقطات"، وفق وكالة الأنباء الفرنسية.

في فلسطين والعالم

لم تترك شيرين قرية أو مدينة أو مخيما فلسطينيا إلا وأعدت عنه أو منه قصة صحفية، وهذا الصباح كتب الكثيرون أنها كانت في كل بيت فلسطيني طيلة العقود الثلاثة الأخيرة.

وشهدت شيرين أبو عاقلة على أحداث فلسطينية مفصلية؛ أبرزها تغطية أحداث انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية) بين عامي 2000 و2004، التي اجتاح الاحتلال الإسرائيلي فيها الضفة الغربية المحتلة، وغطت فيها عمليات قصف واغتيال وأحداثا بالغة الخطورة.

وشاركت بتغطيات صحفية عديدة في مواجهات القدس وغزة والضفة الغربية والداخل، وكان آخرها المواجهات في القدس المحتلة والمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، حيث تعرّضت وزملاءها للتنكيل والاعتداء من جيش الاحتلال، وأصيبت برصاص الاحتلال أكثر من مرة، وفي أكثر من موضع. فقد عرفت بشجاعتها وإقدامها لإظهار الحقيقة.

في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كتبت شيرين أبو عاقلة في دورية "فلسطين هذا الأسبوع" عن جنين، قائلة "جنين بالنسبة لي ليست قصة عابرة في مسيرتي المهنية أو حتى في حياتي الشخصية. إنها المدينة التي يمكن أن ترفع معنوياتي وتساعدني على التحليق عاليا".

وأضافت "إنها تجسد الروح الفلسطينية التي في بعض الأحيان ترتجف وتقع، لكنها تفوق كل التوقعات وتنهض لمتابعة رحلاتها وأحلامها".

وعربيا، كان آخر تغطية شاركت بها في مصر قبل عدة أشهر، حيث كانت من أوائل الصحفيين الذين انتقلوا هناك عقب إعادة فتح مكتب قناة الجزيرة في القاهرة، وظلت هناك بضعة أسابيع قبل أن تنتقل للعاصمة القطرية الدوحة، كما برزت في تغطية عدة أحداث عالمية، ومن بينها الانتخابات الأميركية السابقة.

"اغتيال واضح"

في مقطع فيديو مصور خلال حضورها الأخير للتغطية في المدينة، قالت شيرين، إن "جنين حالة كبيرة، جنين معنويات عالية" مشيرة إلى خطورة الأوضاع هناك التي تطلبت من مكتب الجزيرة بالوجود المستمر في المنطقة، وكانت طواقمها تتناوب على التغطية في مخيم جنين ومحيطه.

وفي شهادة لهما، قال الصحفيان علي السمودي ومجاهد السعدي اللذان كانا بجانب شيرين عند إصابتها، إن جيش الاحتلال تعمد إطلاق النار بشكل مباشر على الصحفيين "مع العلم أنه لا يوجد مسلحون، ولم يكن هناك مواجهات وكانت المنطقة آمنة".

وحسب السعدي "حاولنا كشف أنفسنا للاحتلال كصحفيين لكي لا يتم استهدافنا، فقد كنا ندرك أن الوضع صعب، وتقدمنا بشكل تدريجي لإظهار أننا صحفيون".

وهو ما أكده مدير الجزيرة في فلسطين وليد العمري في شهادات طاقمه، أنه لم يكن هناك مواجهات وأن قناصة للجيش الإسرائيلي كانوا يعتلون أسطح المنازل، وأن شيرين "أصيبت برصاص القناصة من جيش الاحتلال".

وروت الصحفية شذا حنايشة، التي كانت بجانب شيرين لحظة إصابتها أنها كانت ترتدي زيها الصحفي بالكامل (الدرع والخوذة) ومن أطلق النار عليها كان يقصد قتلها، وأن ما حدث "جريمة اغتيال" وأن الصحفيين "كانوا هدفا للاحتلال".

حزن على "فارسة الإعلام"

وأدانت الرئاسة الفلسطينية "جريمة إعدام الاحتلال الإسرائيلي للصحفية شيرين أبو عاقلة" وحملت الحكومة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عنها، مؤكدة أن "إعدام الصحفية أبو عاقلة وإصابة الصحفي علي السمودي جزء من سياسة الاحتلال باستهداف الصحفيين لطمس الحقيقة، وارتكاب الجرائم بصمت".

ونعت الحكومة الفلسطينية ورئيس وزرائها محمد اشتية "فارسة الإعلام وأيقونة الصحافة شيرين أبو عاقلة" في حين أعلنت مدينتا جنين والقدس ومناطق عدة بالضفة الغربية الإضراب العام والحداد على روح الشهيدة أبو عاقلة.

وأدانت الحكومة الأردنيَّة جريمة الاغتيال البشعة ، حيث قال وزير الدولة لشؤون الإعلام، الناطق الرسمي باسم الحكومة فيصل الشبول: ندين هذه الجريمة النَّكراء التي ارتكبت بدم بارد بحق صحفيين يرتدون اللباس الرسمي المميز للصحفيين والإعلاميين.

وضجت وسائل التواصل الاجتماعي بآلاف المنشورات التي تنعى الشهيدة الصحفية، تحت وسوم "شيرين شهيدة جنين" و"الشهيدة الشاهدة" و"شيرين أبو عاقلة شهيدة".

وكتبت الصحفية عرين ريناوي "مدرسة الإعلام وعلم أعلام فلسطين، يا فخرنا، الشهيدة الشاهدة". بينما كتب بلال الشوبكي أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخليل "شيرين أبو عاقلة كانت على ثغرة من ثغور الوطن منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية.. كبرت معنا وفينا كلّما مسّ فلسطين الأذى، وكلّما تنفّست الأمل. كانت صوتاً أنقى من أن يُقيّم، وصورة أبهى من أن تُنتقد، هي بنت كل بيت فلسطيني، وأخت كلّ لاجئ، ورفيقة كل ثائر، وكلمة حقّ في وجه كل جائر".

في حين كتب المحامي والحقوقي فريد الأطرش "جريمة بشعة يقوم بها الاحتلال من خلال استهداف الصحفيين وقتل الصحفية شيرين.. ما حدث ويحدث هو نتيجة تمتع جنود الاحتلال بالإفلات من العقاب".

أما جمال حويل، القيادي في حركة فتح وأحد قادة معركة مخيم جنين التي غطتها شيرين أبو عاقلة عام 2002، فقال في كلمة له أمام جثمانها "رحمها الله.. جاءت من القدس عشان تستشهد بمخيم جنين".

المملكة + قناة الجزيرة