تعلو عبارة "قوات سوريا الديمقراطية مرّت من هنا" بالخط الأسود العريض جدار بيت متواضع في بلدة الباغوز السورية، حيث تطغى أشجار الرمان المزروعة في حقول منازلها والنخيل الذي يزين شوارعها، على الدمار فيها بعدما باتت بين ليلة وضحاها الملجأ الأخير لـ"تنظيم الدولة" الإرهابي المعروف بـ"داعش".

في شارع مليء بالحفر الضخمة وهياكل السيارات والشاحنات الصغيرة المتفحمة، ينتظر مقاتلون بفارغ الصبر انتهاء المعركة ضد التنظيم المتطرف، بينما يتردد على بعد مئات الأمتار منهم دوي قصف جوي ومدفعي يستهدف آخر نقاط الإرهابيين المحاصرين في مساحة لا تتخطى نصف كيلومتر مربع.

وبعد أشهر من انطلاق عملية عسكرية واسعة ضد تنظيم "داعش"، يؤخر وجود مدنيين في بقعة صغيرة عند أطراف بلدة الباغوز حسم قوات سوريا الديمقراطية للمعركة لتتمكن من إعلان انتهاء "الخلافة ..." المزعومة.

من على سطح مبنى سيطروا عليه قبل ثلاثة أيام، يراقب المقاتل حمزة شدادي منطقة المعارك. ويقول لوكالة فرانس برس "يستهدفوننا ليلاً، وتندلع اشتباكات قبل أن يهربوا مجدداً ، لكننا لا نقترب بسبب المدنيين".

ويؤكد قياديون في قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي أن داعش يستخدم المدنيين المحاصرين معه، وبينهم أفراد من عائلات إرهابيين، كدروع بشرية، ما يؤدي إلى تأخير حسم المعركة ضده.

لكن شدادي، الذي يحمل سلاحه على كتفه ويمسك جهاز اتصال لاسلكيا في يده، يقول بثقة "أيام قليلة ونعلن إن شاء الله شرق دير الزور منطقة محررة بالكامل من الإرهاب".

في الأحياء التي طرد منها، تجري قوات سوريا الديمقراطية عمليات تمشيط دقيقة بحثاً عن أنفاق وعناصر متوارين تاركين خلفهم مراكز فارغة وشعارات لا تزال ظاهرة على الجدران، بالإضافة إلى شعار داعش الموجود على رايته السوداء.

في شارع رئيسي في البلدة، يتمركز مقاتلون أمام المنازل مدججين بسلاحهم ويلف بعضهم الشال الكردي التقليدي المزركش بالورود على أعناقهم فوق زيهم العسكري.

يتسامرون حيناً ويلتفتون إلى مصدر الصوت الصادر من مكان ليس بعيدا. دقائق ويتردد دوي ضربتين تشنهما طائرة تابعة للتحالف بعد تحليق كثيف في سماء البلدة، ثم تتصاعد سحب الدخان الرمادي.

وعلى جدار قريب منهم رسم داعش سهماً مرفقاً بعبارة "نت الباغوز للنساء فقط" في إشارة إلى مكان مخصص للإنترنت.

وتفتقر الأحياء تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية لأي حركة إلا للمقاتلين ولسيارات عسكرية تمر مسرعة.

الباغوز تشكر زيارتكم

أمام المبنى، يتبادل ضيا حسكة، أحد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية، الحديث مع رفاقه ويستعيد معهم ذكرياته في الباغوز، في المرة الأولى التي سيطرت قوات سوريا الديمقراطية عليها قبل أن تعود وتخسرها قبل أشهر.

يشير حسكة إلى أشجار رمان فتية اجتاحها اليباس لكن بعضها احتفظ بثمار تحول لونها من الأحمر القاني إلى الأسود بفعل الصقيع، وقربها أشجار نخيل اصفرت أغصانها، وأخرى لم يبق منها سوى جذوعها.

ويقول المقاتل الأسمر، وهو في الثلاثينيات من العمر، لفرانس برس متبسماً "حين دخلنا إلى البلدة قبل أشهر كنا نصعد إلى أسطح المنازل ونقطف التمر والرمان بأيدينا".

وإثر هجوم بدأته سبتمبر الماضي، تمكنت قوات سوريا الديمقراطية المؤلفة من فصائل كردية وعربية تدعمها واشنطن، من السيطرة على بلدة الباغوز لأسابيع عدة قبل أن يشن داعش هجوماً معاكساً ويتمكن من استعادتها، لتصبح اليوم البلدة التي ستشهد نهايته.

ويشير المقاتل الذي يضع نظارتين طبيتين، إلى اختلاف المعركة اليوم عما كانت عليه حينها. ويقول "اليوم ضاقت المساحة بهم فاستشرسوا في قتالهم، في السابق لم يقاوموا كثيراً إذ كانت لديهم أماكن أخرى ينسحبون إليها".

وبات تنظيم داعش اليوم وبفعل حملة عسكرية ضخمة لقوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركية محاصراً في بقعة لا تتجاوز نصف كيلومتر مربع، محاذية للحدود العراقية، وفق ما أعلن القائد العام للعمليات في شرق سوريا جيا فرات السبت.

وباتت أيام "الخلافة" التي أعلنها تنظيم داعش في عام 2014 على مناطق سيطرته في سوريا والعراق معدودة. "في وقت قصير جداً، لن يتجاوز أياماً، سنعلن رسمياً انتهاء وجود تنظيم داعش الإرهابي".

وبخلاف بلدات وقرى عدة في ريف دير الزور الشرقي، تتميز الباغوز التي ينساب نهر الفرات قربها بطبيعة منازلها الشبيهة بقصور صغيرة أو منازل واسعة مكسوة بالحجر، وهو ما يبرره حسكة ومقاتل آخر وقف إلى جانب ويتحدر من مدينة البوكمال المجاورة بـ"ثراء" أبنائها كونهم من المغتربين في دول الخليج.

ويقول حسكة "أي منطقة تمر فيها المياه تكون جميلة لكن أينما حل داعش يحل الخراب معه" بينما يشيح بناظريه إلى طريق ترابية رفعت لافتة خضراء عليها تحمل عبارة "بلدة الباغوز تشكر لكم زيارتكم".

أ ف ب + المملكة