في مخيم إربد، عالج الطبيب الراحل رضوان السعد الآلاف ممن لجأوا إلى عيادته الصغيرة المتواضعة لأكثر من 40 عاما.

"طبيب الفقراء والمساكين" كما يصفه الناس، تقاضى أجرا تراوح بين 25 قرشا إلى دينار واحد فقط، وأحيانا قدم العلاج لمرضاه من دون مقابل، وذهب إليهم كلما دعت الحاجة.

السعد، الذي اكتسب محبة واسعة، توفي الخميس الماضي عن عمر ناهز 73 عاما، بعد عملية جراحية في قلبه، أمضى ثلثي حياته في علاج المحتاجين.

أنشأ الطبيب عيادته في منتصف السبعينيات، وهي من أوائل المرافق الطبية في المخيم، الذي تأسس عام 1951، ويقطنه حاليا أكثر من 25 ألف شخص.

في البداية، كانت أجرة "كشفية" السعد لا تزيد عن 25 قرشا، لكنه اضطر إلى رفعها إلى دينار؛ التزاما بمتطلب نقابي.

"لم نكن نعرف في المخيم وخارجه إلا الدكتور رضوان ... كان يعالجني وجميع أفراد أسرتي في عيادته، ولم نكن مضطرين إلى مراجعة مستشفيات،" يقول أبو غالب، وهو بائع متجول يبيع الملابس "على بسطة" بجانب العيادة في شارع حطين المزدحم في المخيم.

"تشخيص الدكتور رضوان للأمراض كان دقيقا، بالرغم من أنه لم يكن يملك أجهزة حديثة ..." يضيف أبو غالب، وهو في الخمسينات من عمره.

السعد مع حفيدته، يارا، في عام 2017 (الصورة لسعد السعد)


علاج مجاني

ولد السعد، في طبرية شمالي فلسطين عام 1946، وأسس عيادته عام 1976؛ لخدمة مخيم إربد وجواره، بعد عودته من العاصمة الهنغارية بودابست، حيث درس الطب في جامعة سملويس، بدءا من عام 1968.

"كان المرحوم يتقاضى 25 قرشا، أو نصف دينار أجرة كشفية، ثم أصبحت دينارا في السنوات الأخيرة، لكن في أحيان كثيرة لم يتقاضَ المرحوم منا شيئا، وأعطانا أدوية مجانا، وأحيانا كان يعالجنا جميعا مقابل دينار فقط،" يقول أبو غالب.

السعد ترك خلفه 5 أبناء، اثنان منهم طبيبان، والثالث محامٍ، والآخران صيدلانيان.

"تعلمنا من والداي القناعة والرضا، والعمل بإخلاص وبصمت، وألا نأخذ أي مقابل مادي من الفقراء حتى لو كنا محتاجين،" يقول نجل السعد الأكبر، أحمد، وهو طبيب عام في مستشفى حكومي.

ويضيف أنه يفكر في إكمال مسيرة والده في عيادته "بالقناعات نفسها" بعد انتهاء التزامه بعقد عمل مع وزارة الصحة.

في أزقة المخيم، وشوارعه المزدحمة،التي تعج بالحياة، يستذكر الناس السعد.

"ذات مرة، ذهبت إلى دكتور رضوان، وكانت حالتي تستدعي تحويلا إلى مستشفى. لم ينتظر رحمه الله وصول سيارة إسعاف، وأوصلني بسيارته ’الخنفساء’ (فولكسفاجن بيتيل) الزرقاء القديمة إلى المستشفى، وظل معي حتى اطمأن على صحتي،" يقول أسعد (30 عاما) وهو عامل بناء.

شارع حطين في مخيم إربد، حيث عيادة السعد (صلاح ملكاوي/المملكة)


"تأميني رضوان السعد"

تتكون عيادة السعد من غرفتين متواضعتين، حيث عمل لوحده معظم حياته المهنية، كل يوم تقريبا من 08:00 صباحا إلى 06:00 مساءً.

"دوام دكتور رضوان الأصلي كان حتى الساعة 02:00 بعد الظهر، لكنه كان يتأخر يوميا حتى الساعة 06:00؛ لعلاج كل مرضاه،" يقول بسام لحلوح، وهو صيدلاني يعمل بجوار العيادة.

"استقبل دكتور رضوان أكثر من 50 مراجعا يوميا، وكان الجميع ملتزما بدوره."

بالقرب من العيادة، يقف خالد، وهو بائع متجول لبضائع متنوعة "على بسطة" منتظرا زبائن، ومتحدثا عن تجربته مع السعد.

"عند مراجعتي أي مستشفى أو مركز صحي، كان يسألني المحاسب عن تأميني الصحي، وكانت إجابتي دائما واحدة: تأميني رضوان السعد،" يقول خالد، وهو يحاول تشجيع زبونة على الشراء منه.

"لم يكن يقبل الدكتور رحمه الله أخذ كشفية مني، وأحيانا كثيرة كان يشتري لي دواءً، أو يعطيني دواءً من حقيبته التي حملها طيلة فترة معرفتي به،" يضيف خالد، بعد أن غادرت الزبونة من دون شراء شيء.

جملة "تأميني رضوان السعد" ذكرها لـ "المملكة" عدة أشخاص عالجهم السعد.

"لم يتردد الدكتور رضوان في الذهاب إلى منازل المرضى غير القادرين على الذهاب لعيادته، ولم يتلقَ أجرا على هذا،" يقول أبو ماجد، وهو سائق سيارة أجرة تحدثت معه "المملكة" بعد أن أوقف مركبته لأخذ قسط من الراحة في شارع بالقرب من عيادة السعد.

تتكون عيادة السعد من غرفتين متواضعتين، حيث عمل لوحده معظم حياته المهنية، كل يوم تقريبا من 08:00 صباحا إلى 06:00 مساءً (صلاح ملكاوي/المملكة)


"قامة وطنية"

في سنواته الأخيرة، عانى الطبيب من مشكلات في قلبه.

"لم يمنعه المرض من الاستمرار في خدمة مرضاه، قدر المستطاع،" يقول نجل السعد الأكبر.

أجريت للسعد عملية قلب مفتوح في مستشفى خاص في عمّان في 9 أيلول/ سبتمبر، إلا أن مضاعفات أدت إلى وفاته.

"أوصانا والدي قبل وفاته بأسبوعين، أن يُصلى عليه في مسجد ‘أبو هلال‘ بالقرب من مقبرة المدينة الصناعية، حيث دفن، وألا نجزع لوفاته، ولا نكثر من مراسم العزاء، حتى لا نرهق الناس، وأن نكمل مسيرته في مساعدة الفقراء،" بحسب ابنه.

جلالة الملك عبد الله الثاني نعى السعد، وقال عبر تويتر: "الأردن بلد الخير والعطاء لا ينقطع منه الخيرون. كلنا فخر أن من بيننا من تفانى في قضاء حوائج الناس، وسعى للخير والعمل النافع من أجل مجتمعه ووطنه، رحم الله الطبيب رضوان السعد صاحب الروح النبيلة."

جنازة السعد (الصورة من سعد السعد)


شارك مئات في جنازة السعد الجمعة الماضية، وملأوا شارع الإيمان، بالقرب من المقبرة، الذي يزيد طوله عن 300 متر، وخصص خطيب مسجد "أبو هلال" خطبة الجمعة كاملة لاستذكار مناقب الطبيب الراحل.

نقابة الأطباء، وصفت السعد بـ "الطبيب الإنسان الذي كان معلما وقدوة لزملائه الأطباء في انتمائه لمهنته المقدسة ... الذي كان بلسما لعلاج الفقراء وخير عون لهم ...".

"رحل تاركاً خلفه دروساً في الإيثار والتضحية وحب الخير ... وهب حياته طيلة عقود يداوي ذوي الدخل المحدود في مخيم إربد من دون مقابل وبرمزية،" وفق النقابة.

في مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في مخيم إربد، خصصت حصة الطلبة الأولى الأحد الماضي للحديث عن السعد.

"الدكتور رضوان السعد، أبو الفقراء والمساكين ... إنسانيته، متعلم، متواضع، القناعة، متسامح، محب لوطنه وأمته، مخلص في عمله، ويعمل في صمت ... رحم الله هذه القامة الوطنية،" كما كتب على اللوح في أحد الصفوف.

مدرسة تابعة لأونروا في مخيم إربد خصصت حصة الطلبة الأولى الأحد الماضي للحديث عن السعد (الصورة لأحمد السعد)


المملكة