غالبا، يملك الاحتلال الإسرائيلي قاموسا مختلفا عن المتعارف عليه دوليا، يلجأ له لتعريف معاني كلمات الإجلاء والأمن والمدنيين، غير التي تدركها العقول. هذا ما دللت عليه الأيام الـ128 التي تلت إطلاق الاحتلال عدوانه على قطاع غزة.

رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو يقول إنه أصدر تعليمات لإجلاء مئات الآلاف من أهالي رفح قبل بدء الغزو البري الذي يتوعد به، زاعما أنه سيوفر "ممرا آمنا" للمدنيين ليتمكنوا من مغادرة المحافظة الواقعة في أقصى جنوبي قطاع غزة.

ولكن، كم مرة يجب أن تدك آليات الاحتلال وقناصته ومسيراته قوافل المدنيين وهم يسلكون مررات حددها هو، وكم من ضحية يجب أن تسقط مضرجة في مناطق ومبانٍ منحها الاحتلال زورا صفة الآمنة؛ لإدراك تلك الازدواجية.

ليلة السبت وحدها، ارتقى 25 شهيدا على الأقل وأصيب العشرات، بعد قصف على منزل يؤوي نازحين شرقي رفح جنوبي قطاع غزة، وهي المحافظة التي تشهد منذ أيام عدة تكثيفا للقصف بعد أن أرغم الاحتلال مئات الآلاف من مواطني شمال ووسط القطاع للنزوح إليها بزعم أنها بعيدة عن مرمى نيرانه دباباته التي مزقت تلك المناطق.

اليوم تتسع رفح على ضيق مساحتها المقدرة بنحو 65 كيلومترا مربعا؛ لأكثر من 1.3 مليون فلسطيني، يعيش غالبيتهم داخل خيام تفتقر إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة، فيما تتركّز الكثافة السكانية في الأحياء الممتدة من وسط المدينة ‏حتى غربها.

وإذا ما تعمدنا غض الطرف عن ظروف المعيشة التي تفتقر لأدنى معايير الإنسانية، فإن 20 فلسطينيا يعيشون داخل المتر المربع الواحد برفح، مما يعني أن رصاصة واحدة كفيلة بإزهاق العديد من الحيوات، كيف إذا ما تم استخدام قذائف وصواريخ تزن الأطنان؟

في تل أبيب لا موعد محددا لبدء العدوان البري على رفح، وإن صحت تكهنات مسؤوليها فإن منح المستوى السياسي الضوء الأخضر للمستوى العسكري للبدء به قد يتطلب أياما أُخر، ولكن هل تكفي أيام لنزوح مئات الآلاف إن صدقت مزاعم الإجلاء والممرات الآمنة التي تحدث عنها نتنياهو، وإن صدق فإلى أين سينزح النازحون؟

وكالة غوث وتشغيل اللاجئين عبر متحدثيها أشارت إلى أن تجربتها في أيام العدوان المستمر منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تثبت أنه لا يوجد مكان أو ممر إنساني آمن في غزة، وفي القطاع أصلا لم يعد هنالك مكان آخر يلجأ له أكثر من نصف مواطني قطاع غزة المتكدسين في رفح.

وتلمسا لخطورة ما تخطط حكومة الاحتلال للإقدام عليه، صدر سيل من مواقف التحذير على مستوى المنظمات والهيئات والدول، أبرزها الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إضافة إلى دول عربية في مقدمتها مصر والأردن والمملكة السعودية وقطر.

وأكدت تلك الدول رفضها للترحيل القسري لمواطني قطاع غزة، وحذرت من أن الهجوم سيؤدي إلى كارثة إنسانية، وطالبت مجلس الأمن الدولي بتحرك فوري لبحث وقف فوري لإطلاق النار بالقطاع.

المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) كاثرين راسل، حذرت من مخاطر التصعيد العسكري في محافظة رفح جنوبي قطاع غزة، التي نزح إليها أكثر من 600 ألف طفل وأسرهم، الكثيرون منهم هُجروا أكثر من مرة.

وأوضحت راسل، أن التصعيد في رفح، التي تئن بالفعل في ظل العدد الهائل من الأشخاص الذين نزحوا من أجزاء أخرى من غزة، سيمثل تحولا مدمرا آخر في الحرب.

وأكد مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، أن الهجوم الإسرائيلي على رفح سيؤدي إلى كارثة إنسانية تفوق الوصف.

الإدارة الأميركية، وجهّت رسالة إلى إسرائيل، تحذرها من شن عملية عسكرية في رفح خلال شهر رمضان، معتبرة أن ذلك لن يؤدي فقط إلى "تصعيد في غزة" وإنما إلى تصعيد شامل في المنطقة.

وتعد مدينة رفح آخر ملاذ للنازحين في القطاع المنكوب، فمنذ بداية العملية البرية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في الـ27 من تشرين الأول الماضي، يطلب من المواطنين التوجه من شمال ووسط القطاع إلى الجنوب بادعاء أنها "مناطق آمنة" لكنها لم تسلم من قصف المنازل والمركبات والمستشفيات.

وتمتد رفح من البحر الأبيض المتوسط غربا إلى حدود 1967 شرقا، ومن الحدود المصرية جنوبا إلى حدود محافظة خان يونس شمالا، بمساحة لا تزيد على 65 كيلومترا مربعا، وتفصلها عن مدينة القدس 107 كيلومترات إذا سرت بخط مستقيم باتجاه الشمال الشرقي.

معظم أهالي مدينة رفح من اللاجئين الفلسطينيين الذين لجأوا إليها بعد نكبة 1948، وفيها مخيمات: الشابورة، والمخيم الغربي، ومخيم يبنا، ومخيم بدر، والمخيم السعودي، ومخيم الشعوت، وبلوك أو، والعديد من المخيمات تحت مسميات مختلفة، كما تحتوي على أحياء عدة، منها حي البرازيل وحي كندا "ذهب مع الجانب المصري بعد كامب ديفيد"، وسمي الحيان بهذين الاسمين لأنهما كانا موقعا لقوات الطوارئ الدولية قبل عام 1967 والتابعة لكندا والبرازيل.

وتضم رفح أحياء: الجنينة، وخربة العدس، والتنور، والمشروع، وتل السلطان، وحي السلام، والبراهمة، والزعاربة غربي رفح "آل زعرب"، وحي آل الحشاش، وعُريبة، وأحياء أخرى جديدة.

وتقع ضمن حدودها مجموعة من القرى، مثل شوكة الصوفي، وقرية البيوك، ومصبّح، ومشروع عامر، وقرية النصر، وموراج، والعزبة وتقع على شاطئ المدينة، كما أن هناك منطقة ممتدة على طول الحدود الغربية تعرف بمنطقة المواصي.

وتشتهر رفح بزراعة الورد وتصديره، كما اشتهرت بالبيارات حتى تسعينيات القرن العشرين قبل أن تتم إزالتها لصالح البناء السكني ولصالح المزروعات السريعة، كما اشتهرت بزراعة الزيتون والتوت الأرضي والبطاطا والبندورة والخيار.

المطار الوحيد الذي أقيم في قطاع غزة كان مطار ياسر عرفات الدولي والذي دمره الجيش الإسرائيلي عام 2002، وفي جنوب المدينة يقع معبر رفح البري، الذي يعتبر منفذ قطاع غزة إلى مصر ومنها إلى العالم.

وفا