قال جلالة الملك عبدالله الثاني، إن تحديث الدولة هو الخيار الوطني في مواجهة التحديات لتعزيز منعة الدولة وعناصر قوتها لتبقى مصلحة الأردن وأهله أولا، مؤكدا على أن الخبرة الأردنية في التصدي للأزمات حافظت على منعة الدولة.

وأضاف في حوار مع صحيفة "الرأي"، نشرته الأحد، أن "حدود الأردن آمنة بجهود جيشنا العربي وأجهزتنا الأمنية"، موضحا أن "تهريب المخدرات والسلاح خطر يستهدف الأشقاء كما يستهدفنا، ومعنيون بالانخراط في أي جهد إقليمي يحقق الازدهار والتنمية".

وفي مجال التحديث الاقتصادي، قال جلالته، إن لدى الأردن رؤية اقتصادية متكاملة وأمام الحكومة مسؤولية وضع خطة تنفيذية وجدول زمني واضح لتنفيذ مخرجاتها ولا يجوز التهاون في تطبيقها، مضيفا أن الأردن في مرحلة انتقالية طال أمدها ولا يمكن أن نظل فيها إلى الأبد.

وتحدث جلالة الملك عن توجيهاته للحكومة بخصوص تخفيف أثر الأزمات العالمية على المواطنين، وعن مآلات التحديث السياسي، ومستقبل الرؤية الاقتصادية، وعن أهمية تحديث الإدارة العامة التي وصفها جلالته بأنها "العصب المركزي للدولة، ويجب أن نطور كفاءتها وإنتاجيتها".

ودعا جلالته إلى تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي لحماية الأقل دخلا من ارتفاع الأسعار عالميا، ومتابعة التزام الحكومات بتنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي، وبلورة رؤية جديدة للإقليم أساسها التكامل الاقتصادي.

وأكد جلالته على أن جوهر التحديث الإداري يكون بتعزيز سيادة القانون وتفعيل المساءلة والمحاسبة، موضحا أن الإدارة العامة عصب الدولة ويجب أن تطور كفاءتها وإنتاجيتها، والعمل العام خدمة وشرف للجميع ويجب أن يشعر كل مواطن بأهميته.

ودعا في حديثه عن التحديث السياسي، النخب، إلى أن تهجر ثقافة الصالونات السياسية وتنخرط في الأحزاب، موضحا أن الجاهزية الحزبية تتطلب تقديم المصلحة العامة.

"لا نريد تكرار تجارب الماضي في الحياة الحزبية بل نتعلم من الدروس، ونريد عملا جماعيا حزبيا يسهم في تصعيد نخب جديدة"، وفق جلالته، الذي أكد على أن "بناء الأحزاب مناط بالمجتمع، ودور الدولة تسهيل عملها وتحفيزها".

وأضاف جلالته أن الأبواب مفتوحة أمام الشباب لقيادة مسيرة التحديث، مشيرا إلى أن "نجاح التحديث السياسي لا يتحقق بإنكار الإنجاز والإساءة لمسيرتنا".

وفيما يتصل بالتحديات التي تواجه المملكة وكيفية التعامل معها، قال جلالته: "ينبغي علينا في مثل هذه الظروف التي يشهد فيها العالم أزمة اقتصادية صعبة وغير مسبوقة من تضخم وارتفاع أسعار وكساد متوقع وأزمة في الغذاء والطاقة، أن نتكاتف ونستمع لكل الأصوات الوطنية، حتى نتمكن من عبور الأزمة وتخفيف آثارها على شعبنا".

وبخصوص القضية الفلسطينية، قال جلالته: "لنكن واضحين، لا يمكن تجاوز القضية الفلسطينية، فهي قضيتنا الأولى، هي أساس الصراع، وهي مفتاح السلام الشامل والدائم. ولا أمن ولا استقرار ولا سلام في المنطقة من دون حل يرفع الظلم عن الشعب الفلسطيني".

وأكد جلالته أن التمكين الاقتصادي ليس بديلا عن الحل السياسي، وضرورة أن تشمل المشاريع الإقليمية الأشقاء الفلسطينيين، "فنحن الأقرب إليهم"، ويجب أن يكون لهم مكانة ونصيب من كل هذه المشاريع، ولا "نقبل بتهميشهم بأي شكل من الأشكال"، والوصاية الهاشمية على المقدسات واجب نؤديه بكل أمانة.

وفي القضايا الإقليمية، أكد جلالته على أن "الأردن لم يكن ولن يكون أبدا إلا مع حلف الأمة ومصالحها وقضاياها".

وبخصوص قمة جدة، وأهمية مشاركة الرئيس الأميركي جو بايدن فيها، قال جلالته إن هذه المشاركة رسالة مهمة من الولايات المتحدة تعكس اهتمامها بالمنطقة، معربا عن الأمل في أن تسهم مخرجاتها في بلورة رؤية جديدة للإقليم يكون أساسها التكامل الاقتصادي والدفع باتجاه إيجاد حلول سياسية لأزمات المنطقة.

وعن الموقف من إيران قال جلالته: "نحن لا نريد توترا في المنطقة، والأردن وكل الدول العربية تريد علاقات طيبة مع إيران مبنية على الاحترام المتبادل، وحسن الجوار، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها"، وهذا يتطلب كما يؤكد جلالته، أن تعمل إيران على تغيير سلوكها، ولا بد أن يتحقق ذلك على أرض الواقع، فالتدخلات الإيرانية تطال دولا عربية، مثلما أن الأردن يواجه تحديات أمنية على حدوده بفعل مليشيات مرتبطة بها.

وفيما يلي النص الكامل للحوار:

صحيفة الرأي: شكراً جلالة الملك على هذا الحوار، واسمح لي أن أبدأ من التحديث السياسي. ما يزال العمل الحزبي في الأردن تشوبه حالة من التفاؤل الحذر المرتبط بالماضي، والتحديث يحتاج لتحولات نوعية في طريقة عمل الأحزاب، كيف نصل إلى مرحلة ناضجة للعمل الحزبي تقنع المواطنين بجديتها؟

جلالة الملك: الجاهزية الحزبية عملية تراكمية شاقة تتطلب تقديم المصلحة العامة على المنفعة الذاتية والبرامج الواقعية على الطموحات الشخصية. لا نريد تكرار تجارب الماضي في مجال الحياة الحزبية بل نتعلم منها الدروس لنبني نموذجنا الخاص والمنسجم مع أحكام الدستور.

وأعتقد أن الدولة بكل مؤسساتها، وكذلك حالة التوافق الوطني من خلال إقرار التشريعات، وجهت رسالة جدية لها أصل دستوري وقانوني، تدعو الجميع للمشاركة في العمل الحزبي الذي لا أقبل إعاقته أو تعطيله أو مضايقة منتسبيه من أي جهة كانت، طالما أن هذا العمل لا يخرج عن القانون.

صحيفة الرأي: وماذا عن التجارب السابقة؟ ما سبب تعثرها؟

جلالة الملك: على الرغم من أننا أنجزنا حلقة مهمة من الإصلاحات السياسية في الأعوام السابقة، تتمثل في إرساء المؤسسات الدستورية وتطوير التشريعات، لم ننجح بشكل كبير في تعزيز الحياة الحزبية خلال العقدين الماضيين، لأن التشريعات لم توفر الأدوات الكافية لتحقيق ذلك، إضافة إلى أن البيئة السياسية لم تكن محفزة للأحزاب، لذلك انتقلنا إلى مفهوم التحديث الذي يتضمن تهيئة البيئة التشريعية والسياسية الضامنة لمشاركة أوسع في الحياة العامة وصنع القرار، التي تنطلق من أحزاب برامجية واقعية.

الأحزاب لا تبنى من الأعلى إلى الأسفل، ومن المهم توضيح ذلك، فدور الدولة هو تسهيل عمل الأحزاب وتوفير البيئة التي تشجع العمل الحزبي والمشاركة، ولكن ليس من مهمتها بناء الأحزاب، الذي هو دور المجتمع بأطيافه السياسية والاقتصادية، لتعكس برامجها طموحاته واحتياجاته واتجاهاته.

صحيفة الرأي: إذن، ما المطلوب من مؤسسات الدولة والقوى السياسية لتبديد مخاوف الشباب من العمل الحزبي؟

جلالة الملك: بناء نموذجنا الديمقراطي، مسؤوليتنا جميعا، وعندما نتحدث عن قانون الأحزاب فهذا القانون ليس موجها للأحزاب القائمة فحسب، بل للمجتمع الأردني، فلم يعد العمل الفردي منتجا. نريد عملا جماعيا على أساس أحزاب برامجية، تمثل الجميع وتسهم في ظهور نخب جديدة في الدولة ومؤسساتها. ويجب أن يكون الحوار هو الأساس لإقناع الشباب بالبرامج التي تعبر عن تطلعاتهم وأفكارهم.

والأبواب مفتوحة أمام الشباب لقيادة مسيرة التحديث، لكن عليهم ألا ينجروا خلف الشعارات الشعبوية، بل أن ينخرطوا في البرامج الواقعية والقابلة للتطبيق، فالجيل الجديد يعرف ما يريد.

صحيفة الرأي: وماذا عن بعض الصالونات السياسية، التي تمارس نقدا يدفع إلى السلبية ويشكك في جدية الدولة في التحديث السياسي؟

جلالة الملك: اختلاف الآراء أمر صحي وحق للجميع، لكن لا يكفي أن نستغرق في نقد الوضع الحالي، بل يتعين علينا العمل لتغييره لمواصلة تحقيق أهداف التحديث، فنحن في مرحلة انتقالية طال أمدها ولا يمكن أن نظل فيها للأبد.

وأتمنى على بعض نخبنا أن تهجر ثقافة الصالونات السياسية وتنخرط في الحياة الحزبية، فالتغيير للأفضل لن يكون إلا بأدوات الديمقراطية المعروفة، والمشاركة لن تتحقق في المرحلة المقبلة إلا بالعمل الحزبي المنظم.

ما أنجز على صعيد التحديث السياسي يشكل خطوات تاريخية ومهمة لمستقبل الأردن، فقد بنيت منظومة التحديث السياسي بأعلى درجات التوافق الوطني واليوم تأخذ مداها في التطبيق.

ببساطة، لم يأتِ إطلاقنا لمسارات التحديث استجابة لضغوط أو ظروف طارئة، بل تعبيرا عن إرادتنا الوطنية الأردنية في استشراف المستقبل لإنضاج التحول الديمقراطي، ونجاح التحديث السياسي لا يتحقق بإنكار الإنجاز والإساءة لمسيرتنا.

صحيفة الرأي: شهد الأردن بالفترة الماضية سنوات شاقة ومليئة بالأزمات، بدءا بجائحة كورونا واليوم أمام تحد عالمي جديد يتجسد بالأزمة الأوكرانية، كيف تصدى الأردن وما يزال لهذه التحديات؟

جلالة الملك: ينبغي علينا في مثل هذه الظروف التي يشهد فيها العالم أزمة اقتصادية صعبة وغير مسبوقة من تضخم وارتفاع أسعار وكساد متوقع وأزمة في الغذاء والطاقة، أن نتكاتف ونستمع لكل الأصوات الوطنية، حتى نتمكن من عبور الأزمة وتخفيف آثارها على شعبنا.

وما يميزنا في الأردن أننا تاريخيا نتعامل مع أزمات لم تنتهِ، بل تتجدد وتظهر غيرها، فنحن في منطقة تلازمها الأزمات، والخبرة الأردنية وكفاءتها لطالما مكنتنا من التعامل مع التحديات، وحافظت على منعة الدولة وتقدمها في هذا الإقليم المضطرب.

صحيفة الرأي: الموضوع الاقتصادي وارتفاع الأسعار، يشغلان بال المواطنين، كيف يمكن التخفيف عنهم جراء ذلك؟

جلالة الملك: هذا الموضوع في صلب اهتماماتنا اليومية، ولا بد من تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي لحماية الفئات الأقل دخلا من هذه الارتفاعات غير المسبوقة لأسعار السلع عالميا، ومن آثار التضخم والتباطؤ الاقتصادي العالميين، فهذه العوامل مجتمعة ألقت بظلالها على جميع دول العالم.

وعلى الحكومة مسؤولية منع الاحتكار وضبط ما يمكن من الارتفاع غير المبرر لبعض السلع الأساسية، وتعزيز إمكانات القطاع المحلي للتصنيع الغذائي، واتخاذ كل الإجراءات التي تخفف كلف وصول السلع للمواطنين.

وفي المقابل، وجهت الحكومة للعمل على تعظيم الاستفادة من الفرص والمزايا التي يتمتع بها الأردن لتوسيع القطاعات الواعدة في الاقتصاد، خصوصا ما يتصل بالأمن الغذائي وتعزيز القطاع الزراعي وصناعات الأسمدة، والتي تعتمد على البوتاس والفوسفات، فقد أصبحت هذه من الموارد الاستراتيجية المهمة جدا في هذه المرحلة. وعلينا الاستفادة من اتفاقياتنا مع دول العالم لفتح المزيد من الأسواق للصناعات الأردنية، وهذا يقع في صلب أهداف رؤية التحديث الاقتصادي للسنوات العشر المقبلة.

صحيفة الرأي: ماذا عن التعاون الإقليمي بهذا السياق؟

جلالة الملك: التعاون الإقليمي مهم للغاية، ولا بد من الاستفادة من الفرص المتوفرة في كل دولة لتكون عنصر قوة للجميع، فللأسف، لم تعد الأزمات والصدمات شيئا استثنائيا في العالم، ولم يعد هناك بلد محصن من هذه الارتفاعات التي رافقها أيضا ارتفاع في أسعار الطاقة.

جلالتكم، طالما أنكم أشرتم لرؤية التحديث الاقتصادي، ما المطلوب لوضع هذه الرؤية ضمن مسار التنفيذ لتتحول لبرنامج عمل للحكومات؟

جلالة الملك: لدينا رؤية اقتصادية متكاملة للعبور إلى المستقبل، وضعت من قبل قيادات وخبراء من القطاع الخاص وبالتشاركية مع المسؤولين، ولا يجوز التهاون في تطبيقها، فأمام الحكومة مسؤولية وضع خطة تنفيذية وجدول زمني واضح لتنفيذ مخرجاتها. وهي تمثل خريطة طريق وطنية عابرة للحكومات.

نريد لهذه الرؤية أن تنقل الأداء الحكومي من الانشغال اليومي إلى العمل الاستراتيجي، فهدفنا ألا تبدأ كل حكومة من الصفر في الجانب الاقتصادي، بل أن يتم البناء بشكل تراكمي على الإنجاز، بهدف الاستجابة لمتطلبات تأمين فرص العمل وتوسيع الاقتصاد، تحقيقا للتنمية والنمو المستدامين، واغتنام ما لدينا من فرص وميزات.

وأنا أعتقد أن أساس هذه الرؤية رأسمالنا البشري المؤهل والكفؤ، الذي يتطلب دورا حقيقيا وشراكة فاعلة بين القطاعين العام والخاص لتطلق العنان لهذه الكفاءات، التي لطالما ميزت الأردن ولها بصماتها الواضحة داخليا وخارجيا.

صحيفة الرأي: وماذا عن متابعة التنفيذ، وتحديداً من خلال مجلس النواب؟

جلالة الملك: خطة الحكومة التنفيذية لإنجاز الرؤية يجب أن تكون متاحة للجميع، بمن فيهم مجلس النواب ليباشر دوره في الرقابة، وقد أكد رئيس الوزراء التزام الحكومة الكامل بهذه الرؤية عند إطلاقها.

ولأن هذه الرؤية عابرة للحكومات، فستكون محاورها جزءا من كتب التكليف لأي حكومة.

صحيفة الرأي: ورد في رؤية التحديث الاقتصادي، إنشاء آلية للمتابعة مرتبطة بالديوان الملكي الهاشمي، ما الهدف من ذلك؟

جلالة الملك: الهدف هو توفير آلية تتكامل مع وحدة متابعة الأداء الحكومي والإنجاز التابعة لرئاسة الوزراء والوحدات التنفيذية التابعة للوزارات، لمتابعة سير العمل ورصد المعيقات والتوصية باتخاذ الإجراءات بشأنها، إضافة إلى المتابعة مع القطاع الخاص لتيسير مهامه وتذليل العقبات التي تواجهه، خصوصا أن الرؤية لا تشمل القطاع العام فقط، بل هي تعبير عن شراكة بين القطاعين العام والخاص.

وهذه الآلية ستكون بمثابة أداة للتأكد من تحقيق التقدم في تنفيذ مضامين كتب التكليف والتزام الحكومات بتنفيذ محاورها، وهذا المبدأ ينطبق أيضا على متابعة التحديث السياسي والإداري.

ولطالما أشرت إلى تلازم مسارات التحديث السياسي والاقتصادي والإداري، لتحديث الدولة بشكل شامل.

التجارب التي أمامنا أظهرت أنه دون قطاع عام كفؤ ورشيق، لا يمكن المضي قدما في تحقيق الطموحات، فالإدارة العامة هي العصب المركزي للدولة، ويجب أن نطور كفاءتها وإنتاجيتها ومرونتها، خدمة للمواطنين وأهداف الدولة وتطلعاتها، ومواكبة التغيرات العالمية في الإدارة وفي تقديم الخدمات العامة.

صحيفة الرأي: هل دقت حادثة العقبة ناقوس الخطر لضرورة الإسراع في تحقيق إنجاز ملموس على صعيد الإصلاح الإداري؟

جلالة الملك: أتفق معك تماما، ونترحم على شهداء الواجب، فالحادثة مؤلمة بكل تفاصيلها، وقد كشفت لنا عن جوانب التقصير الإداري التي يجب معالجتها، ليس فقط بالعقبة بل في جميع مؤسسات الإدارة العامة.

ولكن يجب ألا ننسى الجهود الكبيرة التي بذلت من أجل الحد من تداعيات الحادثة، وهي جهود مقدرة وأظهرت الجاهزية العالية وسرعة الاستجابة التي كان لها دور كبير في إنقاذ الأرواح والحد من الخسائر.

مع كل أسف، تراجع الأداء الوظيفي وترهل الإدارة يعيقان التقدم ولا يليقان بسمعة مؤسساتنا العامة. لا يمكن البقاء في دوامة التشخيص دون البدء بمعالجة جذرية تسهم في تفعيل أداء الجهاز الحكومي وتعكس تحسنا في كفاءته لتقديم أفضل الخدمات.

النقطة الجوهرية في أي تحديث إداري تكمن في إرساء وتفعيل المساءلة والمحاسبة في عمل المؤسسات وأدائها، وكف يد من لا يعمل لخدمة المواطنين والمراجعين، فالعمل العام خدمة وشرف، ويجب أن يشعر كل مواطن بأهميته وقيمته الوطنية، وأن تنفذ جميع المؤسسات دورها للمصلحة العامة بكفاءة عالية، وفي إطار القانون والأهداف الوطنية.

صحيفة الرأي: وماذا عن التحقيق في هذه الحادثة؟

جلالة الملك: منذ البداية، لم نتأخر في التدخل ولا نقبل ألا يحاسب أي مقصر في هذه القضية أو في غيرها، وقد شددت على ضرورة تقديم توضيحات شفافة للرأي العام لكل ما حصل من خلال نتائج التحقيق، وتحديد الأخطاء ومحاسبة المقصرين وفق القانون.

كما تعلم، القضية اليوم منظورة أمام القضاء الذي نحترمه جميعا.

صحيفة الرأي: ما الذي تطلبه من السلطات ومؤسسات الدولة للمرحلة المقبلة، خصوصاً أننا بدأنا منذ العام الماضي مشروع تحديث شامل للدولة؟

جلالة الملك: كما قلت لك سابقا، نحن أمام تحديث شامل للدولة، وعلى جميع مؤسسات الدولة وسلطاتها أن تعمل بتكامل وفق أسس الدستور.

نحن لا نملك ترف الانتظار، فالتحديث هو خيارنا الوطني في مواجهة التحديات وتعزيز منعة الدولة، لتبقى مصلحة الأردن وأهله أولا.

ولن يؤتي هذا التحديث، بكل مساراته، ثماره إلا بتعزيز سيادة القانون، المظلة التي تحمي هذه المسيرة، فسيادة القانون تعني خضوع الجميع لحكم القانون، الذي يجب أن يطبق على الجميع وأن يعمل من أجل الجميع، كما سبق أن أشرت في مناسبات سابقة عديدة وفي أوراقي النقاشية.

صحيفة الرأي: جلالة الملك، تصدر حديثكم عن الناتو العربي اهتمامات العديد من وسائل الإعلام وخضع لتحليلات متباينة، ما الذي يريده الأردن؟

جلالة الملك: تابعت هذا الموضوع واطلعت على التحليلات التي وردت بشأن ردي على سؤال في مقابلة صحافية، وقد كان السؤال عن مدى ملاءمة فكرة مثل هذا التحالف للمنطقة العربية. ودعني أوضح هنا أن الأردن معني بتعزيز العمل العربي المشترك وتفعيله، خدمة لقضايانا ولمصالحنا.

مرة أخرى، هذه ثوابتنا، فالأردن لم يكن يوما، ولن يكون أبدا، إلا مع حلف أمته العربية ومصالحها وقضاياها.

تاريخيا، الأردن كان في صدارة المشاركين في مواجهة تهديدات إرهابية وأمنية استهدفت دولا عربية وشعوبها.

نحن نتحدث عن الحاجة إلى منظومة عمل دفاعي مؤسسي عربي، وهذا يتطلب تشاورا وتنسيقا وعملا طويلا مع الأشقاء، بحيث تكون المنطلقات والأهداف واضحة. ودعني أذكّر بأن هذا الطرح جزء أساسي من المبادئ التي قامت عليها جامعة الدول العربية، ومع ذلك فإن موضوع الحلف لا يتم بحثه حاليا.

ولو نظرنا اليوم لمصادر التهديد التي تواجهنا جميعا، سنجدها مشتركة، وتتطلب تعاونا عربيا يستجيب لها، خصوصا مخاطر الإرهاب المتجددة، وشبكات التهريب المنظمة للمخدرات والأسلحة.

صحيفة الرأي: لكن هناك من ربط هذا الموضوع في سياق إقليمي يتعلق بإيران، وأنه يأتي على حساب القضية الفلسطينية؟

جلالة الملك: المنطقة ليست بحاجة لمزيد من الأزمات والصراعات، بل إلى التعاون والتنسيق. ودوما، الأردن ينادي بمد جسور التعاون بدلا من بناء الأسوار والحواجز، وهو معني بأمن المنطقة، فأمن الأشقاء العرب هو جزء من أمننا.

نحن لا نريد توترا في المنطقة. والأردن وكل الدول العربية تريد علاقات طيبة مع إيران مبنية على الاحترام المتبادل، وحسن الجوار، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها. ونرى أن الحوار هو السبيل لحل الخلافات، ولكن وكما سبق أن أكدت في عدة مناسبات، التدخلات الإيرانية تطال دولا عربية، ونحن اليوم نواجه هجمات على حدودنا بصورة منتظمة من مليشيات لها علاقة بإيران، لذا نأمل أن نرى تغيرا في سلوك إيران، ولا بد أن يتحقق ذلك على أرض الواقع لأن في ذلك مصلحة للجميع في المنطقة، بما في ذلك إيران والشعب الإيراني.

أما عن القضية الفلسطينية، فلنكن واضحين، لا يمكن تجاوزها، فهي قضيتنا الأولى ومفتاح السلام والاستقرار الشامل والدائم.

وكما قلت أكثر من مرة، لا أمن ولا استقرار ولا سلام في المنطقة من دون حل يرفع الظلم عن الشعب الفلسطيني الشقيق، ويلبي حقه في الحرية والدولة المستقلة ذات السيادة على ترابه الوطني، على خطوط الرابع من حزيران عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، يستعيد فيها كامل حقوقه المشروعة.

والأردن مستمر، وانطلاقا من الوصاية الهاشمية التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، في التصدي لأي محاولة لتغيير الوضع التاريخي والقانوني القائم في المدينة المقدسة. هذا واجبنا ونؤديه بكل أمانة.

صحيفة الرأي: بما أننا في إطار الحديث عن القضية الفلسطينية، ثمة من يربط التعاون الاقتصادي الإقليمي بتراجع الحل السياسي لهذه القضية واستبدال الحل الاقتصادي به؟

جلالة الملك: التمكين الاقتصادي ليس بديلا عن الحل السياسي. هذا موقف نؤكده دوما. الجانب الاقتصادي مهم، وحق الفلسطينيين بالعيش الكريم حق إنساني، ولا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية دون حل سياسي للصراع. نحن منفتحون على برامج التعاون في جميع المجالات، ونؤكد دوما ضرورة أن تشمل الأشقاء الفلسطينيين، فنحن الأقرب إليهم ونريد أن يكون لهم مكانة ونصيب من كل المشاريع الإقليمية والتنموية، ولا نقبل بتهميشهم بأي شكل من الأشكال، فهم يواجهون تحديات اقتصادية صعبة، وجهودنا خلال الأيام والأسابيع المقبلة، منصبة على التواصل الفاعل مع الأطراف المعنية وتهيئة الظروف لاستئناف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

صحيفة الرأي: ما دور الأردن في دعم تحقيق التعاون الإقليمي؟

جلالة الملك: بدأنا في الأردن مبكرا بتشجيع التعاون الإقليمي لبناء مجموعات المنعة الإقليمية، وكما تعلم، لدينا آلية للتعاون الثلاثي مع الأشقاء في مصر والعراق. وهناك تعاون مستمر مع الأشقاء في السعودية ودولة الإمارات، إضافة إلى آلية التعاون الثلاثي مع اليونان وقبرص. فبلد بمفرده لا يُمكن له أن ينجح في مواجهة كل هذه التحديات المشتركة وتحقيق الأهداف الطموحة التي نريدها، خصوصا في مجالات مثل الطاقة والأمن الغذائي والأمن المائي والدوائي والبيئة وغيرها من القطاعات الحيوية.

ونحن معنيون بالانخراط في أي جهد إقليمي يستهدف تعاونا يحقق الازدهار والتنمية لشعوب المنطقة، ويتصدى للتحديات المشتركة.

صحيفة الرأي: شاركتم في قمة جدة، ما المؤمل من الدول المشاركة بما فيها الولايات المتحدة في هذه المرحلة بالنسبة للقضية الفلسطينية؟

جلالة الملك: تعلم أن الرئيس بايدن التقى الفلسطينيين والإسرائيليين قبل القمة، وهي رسالة مهمة من الولايات المتحدة تعكس اهتمامها بالمنطقة، كما أن مشاركتها في القمة تبرز الأهمية الاقتصادية والسياسية لباقي الدول المشاركة.

ونأمل أن تسهم مخرجات القمة في بلورة رؤية جديدة للإقليم يكون أساسها التكامل الاقتصادي والدفع باتجاه إيجاد حلول سياسية لأزمات المنطقة.

الولايات المتحدة شريك رئيس لنا، وعلاقتنا بها متميزة، ولها دور رئيس في كل جهود إعادة إحياء العملية السلمية. ونحن ننسق بشكل مستمر مع السلطة الوطنية الفلسطينية ومع أشقائنا في مصر ومع الدول العربية الشقيقة في ذلك.

واجتماع جدة، الذي نهنئ الأشقاء في المملكة العربية السعودية على نجاحه، عكس أولوية القضية الفلسطينية ومركزيتها، وحجم التنسيق بين الدول العربية.

المرحلة المقبلة ستشهد تنسيقا وتشاورا وتعاونا عربيا مكثفا وفاعلا، من أجل شعوبنا، ومن أجل قضايانا.

صحيفة الرأي: وماذا عن التحدي الأمني الذي نواجهه على حدود المملكة وعمليات تهريب المخدرات بشكل يومي، ألا تعتقد أنه لا يستهدف الأردن فحسب، بل يشمل دولاً عدة؟

جلالة الملك: عمليات تهريب المخدرات والسلاح تستهدفنا كما تستهدف الأشقاء، فالتهريب يصل إلى دول شقيقة وأوروبية. ننسق مع الأشقاء في مواجهة هذا الخطر وندرك جميعا أن مواجهته مصلحة للجميع.

وبالنسبة لحدودنا، فكلي ثقة باحترافية قواتنا المسلحة الذين يصدون عن المجتمع هذا الأذى الخطير بكل كفاءة. الحمد لله، حدودنا آمنة بجهود النشامى في جيشنا العربي، وأجهزتنا الأمنية يقظة ومحترفة ومتفانية في عملها، والأردن قادر على منع أي تهديد على حدوده. بذلنا جهودا كبيرة على مدى السنوات الماضية لتهدئة الأوضاع، لكن التحديات ما تزال موجودة، وسنستمر في اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لمواجهتها وحماية أمننا ومصالحنا.

هناك تبعات كثيرة وكارثية للأزمة السورية، وحلها يكون بالتوصل لحل سياسي شامل يعالج كل تبعاتها، ينهي معاناة الشعب السوري الشقيق، ويوفر ظروف العودة الطوعية للاجئين، ويعيد لسوريا الأمن والاستقرار. هذا ما عملنا من أجله، وهذا ما سنبقى نعمل من أجله.

صحيفة الرأي: في الختام، تحدثتم جلالة الملك عن الأردن الجديد، كيف تنظرون إلى مستقبله؟

جلالة الملك: أمامنا مسؤولية تجاه أجيال الحاضر والمستقبل، ويجب أن تصب كل الجهود في هذا الاتجاه، فالأردن الجديد يعزز مبادئ الحداثة، ويبني على منجزات الماضي، بإدراك عميق لحجم الإمكانات والحاجات والفرص وضرورة الاستثمار في الموارد والعقول والمواهب.

الأردن الجديد يمضي قدما بمجتمع قوي ومنتج، ومشاركة واسعة في اتخاذ القرار، واقتصاد يعزز عناصر القوة والمنعة، وضمانة ذلك كله قضاؤنا العادل وسيادة القانون على الجميع والعمل بتشاركية وبجدية ووضوح.

صحيفة الرأي: شكرا جلالة الملك.

جلالة الملك: شكراً جزيلاً.

المملكة + صحيفة الرأي